من كنوز القديس كيرلس السكندري (87)

بأيّ سلطانٍ تفعل هذا؟

عندما دخل السيّد المسيح أورشليم، وطهّر الهيكل من الذين كانوا يبيعون ويشترون، وجلس يُعلِّم ويُبَشِّر الشعب، وقف رؤساء الكهنة والكتَبة مع الشيوخ، وقالوا له: بأيّ سُلطانٍ تفعل هذا؟ فأجابهم المسيح بسؤال عن معموديّة يوحنّا، فلمّا لم يُجيبوه، قال لهم: ولا أنا أقول لكم بأيّ سُلطانٍ أفعَل هذا (لو20: 1-8).

يُقَدِّمَ القدّيس كيرلّس الكبير مجموعة تعليقات هامّة على هذا الموقف، أقتطف لحضراتكم القليل منها في هذا المقال:

+ إنّ الربّ كان "يُلَمْلِم" ويُقَلِّص ظلّ الناموس، كشيء أصبح غير نافع ولا لزوم له.. لأنّ الوقت الذي كان ينبغي فيه الإعلان عن العبادة التي بالروح والحقّ قد صار الآن قريبًا جدًّا. لأنّه هو نفسه الحقّ، وحيث إنّ الحقّ قد ظهر الآن، فيلزَم بالضرورة أن تصير الرموز نافِلة (بمعنى: زائدة ولا يوجد احتياج لها). ومع ذلك فقد هاجم أولئك التُعَساء ربّ الكلّ بشراسة.

+ ها قد حان الوقت الآن، لتتوقَّف تلك الأشياء التي كانت ظِلالاً، ولتزول تعاليم الناموس التي اُعطِيَت لتعليم القدماء، لكيما يُستَعلَن شيء أفضل، ألا وهو التعليم المُعطَى لنا في الإنجيل.. فإنّ الابن نفسه -كما قلتُ سابِقًا- هو يُلَمْلِم الخدمة الناموسيّة والتعليم الذي فيه حروف ورموز، ويُدخِل تعاليم الإنجيل التي أوّل بدايتها وطريقها هو الإيمان؛ الذي -بواسِطة العبادة الروحيّة- يُكَمِّل إلى التبرير، ويَرفَع إلى التقديس أولئك الذين يتقدّمون إلى الله.

+ أمّا كون شرائع موسى كان مُقَدَّرًا لها أن تبلغ النهاية، وأن يُعطَى بواسِطة المسيح ناموس جديد وعهد جديد، فهذا يُمكِن لأيّ إنسان أن يراه بسهولة، كما يقولّ النبيّ بوضوح: "هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ" (إر31: 31-32).

+ لذلك هو يَعِدُ بعهدٍ جديد، وكما يكتب بولس الحكيم جدًّا: "فَإِذْ قَالَ «جَدِيدًا» جَعَلَ الأَوَّلَ عتيقًا. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الاضْمِحْلاَلِ" (عب8: 13). وحيث أنّ العهد السابق قد شاخ، كان يَلزَم أن يحلّ ما هو جديد محلّه، وهذا تمّ ليس بواسِطة أحد الأنبياء القدّيسين، بل بالحريّ بواسِطة مَن هو ربّ الأنبياء.

+ لماذا تتذمّر أيّها الفرّيسيّ، عندما ترى الكتاب الموحَى به من الله يتحقّق؟ وتَرى تِلك الأشياء التي قالها الأنبياء القدّيسون في القديم تَبلُغ كمالها؟! لقد كانوا (رؤساء اليهود أيّام المسيح) في الواقع يخشون أن يقولوا الحقّ، لأنّهم كانوا يخافون أن يُقال لهم: فلماذا لم تؤمِنوا به؟ لذلك فإنّهم أخفوا الحقّ!

+ هم غير مستحقّين أن يتعلّموا الحقّ، وأن يُبصِروا الطريق الذي يؤدِّي مباشرةً إلى كلّ عمل صالح.. إنّ اليهود لم يعرفوا الحقّ لأنّهم لم يكونوا مُتَعلِّمين من الله؛ أي من المسيح. أمّا لنا -نحن المؤمنين به- فإنّ المسيح يُظهِر الحقَّ لنا، حتّى إذا ما قبلنا في ذهننا وقلبنا سرّه الإلهي المُكَرَّم جدًّا، أو بالحريّ معرفة السرّ، وإذا ما حرصنا على إتمام الأمور التي ترضيه، فإنّنا سوف نملك معه.

[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 133) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]