نداء التوبة ومعطّلاتها

يأتي الصوم دائمًا في فصل الربيع، وملامح الربيع متميّزة عن الخريف والشتاء حيث الذبول والبرودة والجمود؛ فالزهور تتفتّح وتَخرج منها روائح جميلة، والنور يزيد، والفروع تنمو.. هكذا الصوم في الحياة الروحيّة هو ربيع النفس، إذ فيه تنفتح النفوس المغلقة على الله، فيدخل إليها النور الإلهي، وتفوح منها رائحة التوبة؛ رائحة الصلوات والتسابيح والاشتياقات الروحيّة!
+ عندما يدخل النور الإلهي إلى النفس يُبدّد الظُلمة، ويكشف الأركان الضعيفة فيها، ويملأها بالنقاوة والفرح.. لذلك فالتوبة في موسم الصوم تتّسم بطابع الفرح والبهجة، فلا يوجَد بها كآبة، بل هي إيجابيّة وليست سلبيّة!
+ التوبة حلوة ومُفرحة، لأنّها ارتماء في أحضان الله وانفتاح عليه، وبداية تَنَسُّم الحياة الجديدة بدلاً من هواء الأرض الفاسد، فتبدأ الروح تتمتّع بأنفاس الله وروائح الأبديّة!
+ نداء التوبة هو نداء من الروح القدس لنا جميعًا.. وصيغته بسيطة جدًّا: "توبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب.." (أع3: 19).
+ نحتاج أن نتجاوب مع هذا النداء، بدلاً من أن نرفضه أو نؤجِّل الاستجابة.. والحقيقة أنّ التجاوب مع هذا النداء هو بداية الحياة الحقيقيّة مع الله، أمّا قبل ذلك فموت وعمر ضائع غير محسوب، حتّى لو كُنّا نحضر الكنيسة من وقتٍ لآخَر.. إذ أنّ وجود الخطيّة في القلب تجعل العلاقة مع الله باطلة ومجرّد أيّام ضائعة علينا، أو مِثل السيّارة الدائرة ولكنّها لا تتحرّك، تستهلِك الزيت والبنزين بدون فائدة!
+ أمّا عن معطّلات التوبة، فهناك ثلاثة عوائق رئيسيّة، ينبغي أن نحذر منها:
أوّلاً: التمسُّك بالخطيّة:
+ بمعنى الإصرار على الاحتفاظ بخطيّة محبوبة أو عادة رديئة، نظنّ أنّنا لا نستطيع الحياة بدونها.. أو الاستسلام لبعض الشرور والغرق فيها!
+ هنا يوجَد خداعٌ من عدو الخير، لأنّ الخطيّة ليست حلوة كما يصوِّر الشيطان للبعض أنّ لها بريقًا ولذّةً، فهذا وضع مؤقّت؛ وسرعان ما تَظهر حقيقتها المُرّة والمُخرِّبة تمامًا لحياة الإنسان؛ فهي بؤس ومرار ودمار، تَستهلِك الإنسان وتأكُل وقته وصحته وإرادته ومواهبة وكلّ إمكانياته، فلماذا نتمسّك بها؟!
+ أحيانًا يبدو أنّ الإنسان سيخسر شيئًا جيّدًا عندما يبتعد عن الخطيّة، ولكنّ الحقيقة أنّ الله لا يَحرمنا أبدًا من أيّ شيء جميل أو مفيد، هو فقط يُحَذِّرنا من السموم المميتة، والأمور المُضِرّة والهادمة. وفي المُقابِل، فإنّي عندما أعيش مع الله سأكون سعيدًا مُستمتِعًا وليس محرومًا، إذ أنّ الله يمنحنا كلّ شيء بغنى للتمتُّع (1تي6: 17)!
+ إذا كنّا فعلاً في وضع العبوديّة للخطيّة، فإنّ المسيح قد جاء لكي يحرّر العبيد. هو قوّتنا ومُنقِذنا، وسامع صراخنا، وملجأنا الذي نتحصّن فيه!
+ في جهادنا الروحي، مِن المهم أن نسدّ منافذ الخطيّة ونحفظ حواسّنا، مُدركين أنّنا أقوياء بالمسيح، واضعين في قلوبنا أنّه لا تفاوض مع الخطيّة، بل نطرد ونقاوم إبليس فيهرب مِنّا (يع4: 7).
ثانيًا: الاتكال على الاجتهاد الشخصي، والاعتماد على الذّات:
+ الحقيقة أنّ جهادنا كلّه هو أن نُقَدّم نفوسنا لله، لكي يملأنا بنعمته. والمنهج الأُرثوذكسي الأصيل في الجهاد هو تآزُر وعمل مشترك بين النعمة الإلهيّة والمجهود الإنساني.. والنعمة لا تُعطَى إلاّ للمتواضعين!
+ عندما نتّضع ونعترف بخطايانا ونصلّي طالبين مراحم الله مثل العشار، فإنّ النعمة تنسكب علينا. أمّا محاولة الظهور بصورة طيّبة أمام الناس، والتجمُّل حتّى أمام أب الاعتراف، فهذا معناه أنّنا غير صادقين مع أنفسنا في التوبة، وهذا بالتأكيد يحرمنا من تدفُّق النعمة علينا!
ثالثًا: الخوف؛ إمّا مِن الله وطريقه، أو مِن عدم الاستمرار:
+ هنا يوجَد أيضًا خداع.. فالله محبّ للإنسان ولخلاصه، وينتظر عودته لحضنه، كما رأيناه في المثل يجري ويقع على عنق ابنه العائد ويقبّله (لو15).
+ طريق الله مُفرِح وفيه نور وأمان؛ ومَن يسلّم نفسه في يده، فإنّه يضمن له نجاح المسيرة وسلامة الوصول. كلّ ما على الإنسان هو أن يظلّ ملتصقًا بالله، ويواظب على الصلاة بإيمان طالبًا معونته القويّة!
+ أمّا مصاعب الطريق، فإنّ الربّ كفيل أن يقودنا بنجاحٍ فيها، ويرفعنا فوقها، لكي نكون غالبين باستمرار؛ فهو الضامن لخلاصنا، كما يؤكِّد لنا الكتاب: "قد صار يسوع ضامنًا لعهدِ أفضل" (عب7: 22).. وهو يعزّينا دائمًا بوعده: "لا تَخَف لأنّي معك. لا تَتَلَفَّت لأنّي إلهك. قد أيّدتُك وأعنتُك وعضّدتك بيمين بِرّي" (إش41: 10).