تأملات وتفاسير إنجيليّة (1)

    في مقال سابق، أشرت إلى أنّ القدّيس إيسيذوروس الفرمي في رسائله التي تُعَدّ بالآلاف، قدّم الكثير من التأملات والتعليقات الجميلة على بعض النصوص التي جاءت في الأسفار المقدّسة. ومعظم المعاني التي جاءت في تلك التفاسير، تكشف عن أنّه كان يتغذّى بكتابات الآباء الذين سبقوه مثل إيرينيؤس وأوريجينوس، والمعاصرين له أيضًا، مثل أثناسيوس ويوحنّا ذهبي الفم وكيرلّس السكندري؛ فجاءت أقواله متفقة في روحها معهم. ويسعدني في هذه السلسلة من المقالات أن أقدّم عشرين نموذجًا من هذه التعليقات، وهي تشمل فقرات وآيات من العهدين القديم والجديد.

    بركة القدّيس إيسيذوروس الفرمي تكون معنا جميعًا.

    1- مَن هم "النازلون إلى البحر في السفن، العاملون عملاً في المياه الكثيرة" (مز107: 23)؟ هم رسل الربّ، حاملو الله، بسبب مهنتهم السابقة، وكذلك بسبب عملهم في الصيد داخل المجتمع. أي لأنّ البشريّة هاجت وهدأت مثل الأمواج، لأجل هذا السبب، بالصواب تُسَمِّي الأقوال الإلهيّة حالتهم غير المستقرّة بالبحر. وأولئك [الرسل] الذين جلبوا الهدوء، يُقال إنّهم يعملون في مياهٍ كثيرة. (الرسالة 183).

    2- (مت17: 24-27): الدرهمان اللذان أُمِرَ بطرس أن يأخذهما من العمق، واللذان كانا مَخفيّين في سمكة، يُعلِنان صورتنا التي اُخفِيَت من جراء الشهوات؛ تلك التي دعاها الربّ مرّة ثانية من خلال ذاته أن ترجع إلى حالتها الأولى (القديمة). فقد أمر أن تُعطَى [الجزية] بفضله، لأنّه كان مُلزَمًا بكلّ ما يخصّنا، غير سامح بالتمرّد على الملك، عندما تكون شرائعه غير ضارّة، بل أيضًا مُظهِرًا في نفس الوقت أفعال القوّة الإلهيّة. (الرسالة 206).

    3- (لو2: 23): قيل في الكتاب المقدّس: "كلّ ذَكَر فاتح رحِم يُدعَى قدّوسًا للرب".. الرَّحِم الذي وَلَدَ ربّنا يسوع المسيح، فَتَحَهُ ذاك الذي حَمْلُهُ صار بدون زرع [بشر]، وترَكَهُ أيضًا مُغلَقًا. إنّه صار إنسانًا حقيقيًّا، وهو أيضًا إلهًا حقيقيًّا، ويُسجَدُ له بكونِهِ شخصًا واحِدًا من طبيعتين. (الرسالة 23).

    4- "من قال كلمةً على ابن الإنسان يُغفَر له، وأمّا مَن قال على الروح القدّس فلن يُغفَر له" (مت12: 32): لقد طلبتَ أن تعرف هذا الموضوع الصعب والمُثار كثيرًا، حيث فُسِّرَ بواسطة كثيرين، لكنّه صار مُدرَكًا فقط من أولئك الذين لهم استنارة إلهيّة.. لقد سألتَ عن السبب في أنّ التجديف ضدّ الابن لا يُعاقَب، بالرغم من أنّ جوهر الثالوث القدّوس هو واحد، لكن فقط التجديف على الروح القدس؟ اسمع إذن؛ مَن يُجَدِّف ضدّ ابن الإنسان لا يُعاقَب، لأنّ أولئك الذين أعين ذهنهم مريضة، من الصعب عليهم أن يروا ويدركوا الاتّحاد بين الله الذي لا يُوصَف مع الجسد البشري الضعيف، لأنّهم يجهلون اللاهوت المحتَجَب.. إنّما التجديف ضدّ الروح القدس لا يُغفَر، لأنّ الأعمال المعجزيّة ذاتها التي تَظهَر، تُبَكِّت التجاديف، وتحكم عليها كجحود ونُكران للجميل. لأنّه عندما شفى المرضى وطرد الشياطين بقوّة اللاهوت، اتّهمه اليهود المتذمّرون بأنّ هذه الآيات الإلهيّة تَحدُث بقوّة بعلزبول. إذن، هذا التجديف الواضح ضدّ الجوهر الإلهي، لا يُغفَر بحسب تحديد الربّ.. وكون أنّ الروح القدس له نفس الجوهر الإلهي، ستجده في كلام الرب، داعيًا الروح القدس "أصبع الله". فالأصبع.. هو جزء من جوهر الجسد. إذن، بواسطة اسم "الأصبع" يُظهِر عدم انفصال بل قرابة الروح القدس للجوهر الإلهي. (عن الرسالتين 59 و60). [هذا التعليق يتشابه مع شرح ق. أثناسيوس بخصوص التجديف على الروح القدس، وشرح ق. كيرلّس السكندري بخصوص أنّ الروح القدس هو أصبع الله].

    5- (إش6:6): لقد أخذ واحد من السيرافيم بملقط، الجمرة المشتعلة من المذبح، مُعايِنًا بكلّ وضوح تأنُّس ربّنا. مَثَلُ الجمرة المشتعلة يُظهِرُ الجوهرَ الإلهي، بينما الملقط كان الجسد الطاهر، الذي اتّحَدَ بتلك الجمرة، والآتي مِنّا. لمس شفتيّ إشعياء وطهَّرَ خطيّته، أي خطايا كلّ الجنس البشري. وحقًّا الاتحاد الذي لا يوصَف للكلمة مع الطبيعة البشريّة، محا بطريقة إلهيّة خطايا كلّ العالم. (الرسالة 42).

[عن كتاب: رسائل القدّيس إيسيذوروس الفرمي (المجلّد الأوّل) – ترجمة المتنيّح الدكتور جورج عوض إبراهيم – إصدار المركز الأُرثوذكسي للدراسات الآبائيّة بالقاهرة]

(يُتَّبَع)