لماذا يكذب الناس؟
لفت نظري في زمان إرميا النبي كثرة عدد الأنبياء الكذبة في عصره. لقد كانوا يقولون للناس ما يُحِبُّون سماعه؛ فيبَشِّرونهم بسلامٍ آتٍ، ولا يحثّونهم على التوبة وترك الشرور التي في أيديهم، ويشغلونهم بأحلام ورسائل كأنّها من الله لهم، وفي الحقيقة أنّ الله لم يُرسِلهم، ولم يكُن هذا هو الذي يريد إبلاغه للشعب.
كان إرميا يقف وحيدًا تقريبًا في مواجهة أولئك الأنبياء الكذَبة، ليُبَلِّغ الشعب بما يقوله الله لهم بكلّ صدق.. ولكن معظم الشعب كان مستاءً من كلامه ويرفضون التوبة والإصغاء لصوت الله!
كان الأنبياء الكذبة في ذلك العهد كثيرين جدًّا، وكانوا يرتزِقون من هذا العمل مادّيًّا، وينالون عن طريقه أيضًا كرامةً من الناس، بينما هم ليسوا أصلاً على اتصال بالله، لدرجة أنّ الله قال عنهم في مرّة: "لو وَقَفُوا فِي مَجْلِسِي لأَخْبَرُوا شَعْبِي بِكَلاَمِي وَرَدُّوهُمْ عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيءِ وَعَنْ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ" (إر23: 22).
إذا عُدْنا لننظُر إلى هذا العالم الذي نعيش فيه الآن، فإنّنا نرى ونسمع أيضًا الكذب والتزوير على أعلى مستوى، بكلّ أسف.. لدرجة أنّ الناس أحيانًا تقول عكس الحقيقة (بالفمّ المليان)، وهم يَعلَمون تماما أنّهم يكذبون.. نأتي هنا للسؤال المُحَيِّر:
لماذا يكذب الناس؟!
لعلّ هناك سببًا أو أكثر من هذه الأسباب السبعة:
أوّلاً: المنافع الماديّة:
كما كان يفعل الأنبياء الكذبة، فيجمعون الناس حولهم ويَدّعون أنّهم يقولون كلام الله، بينما هم بعيدون تمامًا عن محبّة الله، ويستفيدون فقط مادّيًّا من مكانتهم كقادة دينيّين.. وبالطبع هناك أيضًا أمثلة كثيرة للذين يكذبون ويغشّون من أجل مكاسب مادّيّة رخيصة، سواءً في التجارة أو في تأدية أيّ عمل.. ونذكُر أيضًا في هذا المجال شهود الزور؛ الذين يَفتَرون على الآخَرين بأمور غير حقيقيّة نظير أجرة مادّية.
ثانيًا: تبرير النفس:
هذا نوع شائع من الكذب، كحيلة دفاعيّة لتبرير الأخطاء والهروب من نتائجها، وإلقاء اللوم على آخَرين.. وهذا النوع -مثل جميع أنواع الكذب- هو مُدَمِّر للنفس من الداخل، لأنّه لا يعالج أمراض النفس بل يُثَبِّتها ويحاول إخفاءها، وبالتالي فإنّ العيوب تستشري والمشاكل الداخليّة تتفاقم.. كما أنّ هذا النوع أيضًا يتسبّب في انهيار العلاقات مع الآخَرين وفقدان الثقة..
ثالثًا: تقوية الجبهة أو الجهة التي يتحزّب لها الإنسان:
وهذه حيلة يلجأ إليها الماكرون من أجل منافع شخصيّة، بصرف النظر عن الحقيقة الواضحة.. وقد يضع الناس هذا اللون من الكذب في غلافٍ لطيف، مثل أن يُقال أنّ هذه مجرّد وِجهة نظر، أو أنّها محاولة متواضِعة للبحث عن الحقيقة، أو أنّ هذه الجبهة يلزم تقويتها في مواجهة خطورة الجبهة الأخرى!
رابعًا: مسايرة التيّار أو مجاملة الرفقاء:
وهذا النوع يقع فيه الضعفاء، الذين لا يَقدرون على السباحة في الاتجاه السليم ولو ضدّ التيار، وربّما يُبَرّرون هذا التصَرُّف بأنّه لونٌ من الحكمة.. هؤلاء يضطرّون إلى تغيير آراءهم واتّجاهاتهم إذا تغيّرَت الظروف، وقد يغيِّرون انتماءهم أيضًا. هم في كلّ الأحوال لا يستطيعون أبدًا أن يكونوا أصدقاء أوفياء، بل فقط يُجامِلون الأقوياء وأصحاب السُّلطة!
خامسًا: الخوف:
هذا سبب شائع للكذب بين الناس، إذ يخشى البعض من الدخول في مشاكل، ويَظُنّون أنّ الكذب سيُنهي الموقف، ويُجَنِّبهم الوقوع في إحراجٍ أو مأزَق؛ بينما في الحقيقة أنّ الكذب يُعَقّد الأمور، وقد يقود الإنسان إلى سلسلة لا تنتهي من الأكاذيب لتغطية الكذبة الأولى، وبالتأكيد سيدفع الإنسان ثمن كلّ هذا من نجاحه وسلامه وعلاقته بالله والناس أيضًا.
سادِسًا: التسرُّع في الكلام والردود:
وهذا أيضًا يقع فيه الناس كثيرًا.. ولذلك فإنّنا نحتاج للتروِّي في الردّ، والصلاة لطلب الحكمة من الله قبل الإجابة على الأسئلة المُحرِجة أو المفاجئة، لكي نقول الحقّ أو نُجيب إجابة عامّة تحوي جانبًا بسيطًا من الحقيقة.. فليس مُهِمًّا أن نَرُدّ بسرعة، ولا أن نقول كلامًا كثيرًا.. وقد يكون الصمت هو أحد أنواع الردود، فالاحتفاظ بالأمور الخاصّة وإخفائها ليس كذِبًا.. وقد يكون أحد الحلول أن نُجيب بسؤال من أجل فَتْح حوار، كما فعل المسيح مرّاتٍ كثيرةً مع الذين كانوا يسألونه!
سابِعًا: تجميل المظهر وجلب المديح:
قد يلجأ بعض الناس لهذا اللون من الكذب بسبب كبرياء النفس الداخلي ومحبّة الشُّهرة والمجد الباطل، فينطقون بأكاذيب لأجل الافتخار؛ وخير مثالٍ لذلك هو ما صنعه حنانيا وسفيرة.. فهُما أرادا أن يضعا اسميهما في وسط كبار المتبرّعين للكنيسة، بينما للأسف أعطيا الشيطان فُرصةً ليملأ قلبيهما فيكذبا (أع5: 1-11).
في كلّ هذه الحالات، ليتنا نتذكَّر دائمًا أنّ الكذب هو من الشيطان، وهو مدمِّر للنفس وللعلاقات، ويُضعِف الإنسان من الداخل جِدًّا.. كما أنّه إذا سمحنا للشيطان باستخدام مساحة صغيرة في ألسنتنا، فقد يكون هذا مدخلاً لكي يسيطر بالكامل علينا، ويدير طريقنا كلّه إلى الهلاك.. ولا ننسى أنّ ربنا يسوع هو الإله الحقّ (1يو5: 20)، وقد علّمنا أن الشيطان هو الكذّاب وأبو الكذّاب، بمعنى أنّ مَن يكذب يضع نفسه تحت جناحيّ الشيطان، ويتّخِذه أبًا له.. يا للخطورة!
من أجل هذا، فإنّه مِن غير الوارد عند أبناء الله أنّ يقولوا غير الحقّ، أو يسمحوا للشيطان أن يضع كلماته الكاذبة على ألسِنتهم. فإذا كان المسيح هو ابن الله بالحقّ والمحبّة (2يو3)، فأولاد الله الثابتون فيه ينبغي أن يثبتوا أيضًا في الحقّ والمحبّة، ولا يوجَد في أفواههم غشّ أو كذب (رؤ14: 5، 21: 8، 27) لأيّ سبب من الأسباب.