من كنوز القديس كيرلس السكندري (81)
يسوع يُنبِئ بموته وقيامته
للقدّيس كيرلّس الكبير تعليق جميل على كلام المسيح لتلاميذه، عندما أنبأهم بتفاصيل آلامه وجلده وصلبه وقيامته، بينما هم لم يستوعبوا كلامه (لو18: 31-34)، فيقول:
+ كلّ ما يحدث على غير توقُّعٍ، إذا ما كان مُتَّسِّمًا بالخطورة، فإنّه يُعَرِّض حتّى أشجع الناس للاضطراب والانزعاج، وأحيانًا يصيبهم بمخاوف لا تُحتَمَل. أمّا إذا كان قد ذُكِرَ قبل حدوثه، فإنّ وَقْعَهُ يَسهُل تجنّبه، وهذا هو على ما أظنّ معنى "تهيّأتُ ولم أنزعج" (مز119: 60 سبعينيّة).
+ الكِتاب الموحى به من الله، يقول لأولئك الذين سوف يبلغون للمجد بسلوكهم طريق القداسة هكذا: "يا بُنَيّ إذا تقدّمتَ لخدمة الربّ أعدد نفسك للتجربة، ووَجِّه قلبك واحتَمِل" (ابن سيراخ 2: 1-2). إنّ الكتاب يتكلّم هكذا لكي يُعَلِّم الناس أنّهم بممارسة الصبر والاحتمال فإنّهم سوف يتغلّبون على التجارب، التي تُقابل كلّ مَن يعيشون بالتقوى.
+ مُخَلِّص الكلّ، لكي يُعِدّ مُسبَقًا أذهان التلاميذ، فإنّه يُخبِرهم بأنّه سوف يُعاني الآلام على الصليب والموت بالجسد.. وأضاف أيضًا أنّه سوف يقوم ثانيةً، ويمسح الألم، ويُزيل خزي الآلام بعظمة المعجزة، لأنّه أمر مَجيد ويليق بالله أنّ يكون قادرًا على كسر رباطات الموت، والعودة بسرعة إلى الحياة.
+ يَلزمنا أن نشرح ما هي المنفعة التي نالها الرسل القدّيسون، من معرفتهم باقتراب تلك الأمور التي كانت على وَشَك الحدوث.. كانوا على وَشَك أن ينظروه يَحتَمِل سُخرية اليهود، ويُصلَب ويُستَهزَأ به ويُلطَم من الخدام. لذلك كان مُمكِنًا أن يَعثُروا بهذه الأمور، ويُفكِّروا في داخل أنفسهم.. كيف أنّه لم يَعرِف ما كان مُزمِعًا أن يحدُث؟
+ لذلك فإنّه أخبرهم مُقَدَّمًا عمّا كان سوف يحدث، حتّى يكونوا على دراية بأنّه قد عرف بآلامه قبل أن تحدُث، ومع أنّه كان في استطاعته أن يهرب منها بسهولة، إلاّ أنّه مع هذا تَقَدَّم لملاقاتها بإرادته..
+ وأضاف أن كلّ هذه الأمور قد سبق أن تنبَّأ عنها الأنبياء القدّيسون. لأنّ إشعياء يتكلّم كما بلسان المسيح: "بذلتُ ظهري للسياط وخدّي للّطم، ووجهي لم أستُر عن خِزي البصاق" (إش50: 6 سبعينيّة). وأيضًا يقول في موضع آخَر: "مثل خروفٍ يُساقُ إلى الذبح وهو صامت، وكنعجةٍ أمام الذي يجزّها" (إش53: 7 سبعينيّة). وأيضًا: "كلُّنا كغنمٍ ضللنا، مِلنا كلّ واحدٍ إلى طريقِهِ، والربّ سلَّمَهُ بسبب خطايانا" (إش53: 6 سبعينيّة).
+ كذلك يرسم لنا داود الطوباوي.. صورة مُسبَقة للآلام على الصليب، ويضع يسوعَ أمامنا متكلِّمًا كإنسانٍ مُعَلَّق على الخشبة: "أمّا أنا فدودة لا إنسان، عارٌ عند البشر ومحتَقَر الشعب، كلّ الذين يرونني يستهزئون بي، يتكلّمون بشفاههم ويهزّون رؤوسهم قائلين اتّكل على الرب فليخلِّصه" (مز21: 6-8 سبعينيّة).. وأيضًا قال: "اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لُباسي ألقوا قرعة" (مز21: 18)، كما يقول في موضع آخَر عن أولئك الذين صلبوه: "ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يسقونني خلاًّ" (مز68: 21 سبعينيّة).
+ لذلك، فمِن كلّ ما كان مُزمِعًا أن يصيبه، لم يوجَد شيء لم يسبِق الإخبار به قبل حدوثه، والله رتّب هذا لمنفعتنا حتّى عندما يحين الوقت لحدوثه، لا يَعثُر أحد.
+ خضع (الربّ) للتألُّم، لأنّه عرف أنّ آلامه سوف تكون لأجل خلاص العالم كلّه. إنّه احتمل -في الواقع- موت الجسد، لكنّه قام ثانيةً إذ داس على الفساد، وبقيامته من الأموات غَرَسَ في أجساد البشر الحياة النابعة منه، لأنّه فيه تمّ إعادة كلّ طبيعة البشر إلى عدم الفساد.. إذ نرى أنّه كإلهٍ له قوّة لا تُقاوَم.
+ سبق مخلِّص الكلّ وأعلن هذه الأشياء للرسل الأطهار.. لكن عندما قام المسيح من بين الأموات، فإنّه فتح أعينهم كما كتب أحد الإنجيليّين القدّيسين، لأنّهم استناروا واغتنوا بالشركة الفيّاضة مع الروح، لأنّ الذين لم يفهموا قبلاً كلمات الأنبياء، حثّوا فيما بعد الذين آمَنوا بالمسيح أن يدرِسوا كلام الأنبياء قائلين: "وعندنا الكلمة النبويّة وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها، كما إلى سِراجٍ منير في موضع مُظلِم، إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2بط1: 19). وهذا أيضًا بلغ كماله، لأنّنا إنّما اِستُنِرنا في المسيح.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 125) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]