من كنوز القديس كيرلس السكندري (74)

الصلاة كلّ حين بلا ملل

 

    تحدّث الربّ يسوع المسيح بمثل "الأرملة وقاضي الظُّلم"، لكي يؤكِّد أهمّيّة الصلاة كلّ حين بلا ملل، مؤكِّدًا أنّ الله يَنصِف مُختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلاً، وهو فقط يتمهّل منتظرًا أن يرى إيمانهم ولجاجتهم (لو18: 1-8).

    يُعَلِّق القدّيس كيرلّس الكبير على هذا المثل بتأمُّلات جميلة، أقتطِف في هذا المقال بعضًا منها:

    + إنّ واجب الذين أوقفوا حياتهم لخدمة الله، ألاّ يكونوا متكاسلين في صلواتهم، وأيضًا لا يعتبرونها واجِبًا شاقًّا ومُتعِبًا، بل بالأحرى أن يفرحوا، بسبب حُرِّيَّة الاقتراب التي منحها الله لهم، لأنّه يريدنا أن نتحدَّث معه كأبناء مع أبيهم.

    + أفليس هذا إذًا امتيازًا جديرًا جدًّا بتقديرنا؟ فإذا افترضنا أنّنا نستطيع أن نقترب بسهولة من أحدِ الذين لهم سلطان أرضيّ عظيم، وكان مُتاحًا لنا أن نتحدّث معه بمنتهى الحُرِّيّة، أمَا كُنّا نعتبر هذا سببًا لفرحٍ غير عاديّ؟

    + لذلك حينما يسمح الله لكلٍّ مِنّا أن يُقَدِّم طلباته، لأجل كلّ ما نريد، وقد وضع أمام الذين يخافونه كرامة حقيقيّة عظيمة جدًّا، وجديرة بأن نربحها، فليتوقَّف كلّ تكاسُل.. ولنقترب بالأحرى بتسابيح، ونبتهج لكوننا قد أُمِرنا أن نتحدّث مع ربّ وإله الكلّ. والمسيح وسيطٌ لنا، والذي يمنحنا مع الله الآب تحقيقًا لكلّ توسُّلاتنا.. لأنّه هو وسيطُنا وكفّارتنا ومُعَزِّينا، والواهب لكلّ ما نطلب. لذلك فمن واجبنا أن نصلِّي بلا انقطاع (1تس5: 17).

    + المَثَل الحاضر يؤكِّد لنا أنّ الله سيُمِيل سَمَعَهُ لِمَن يُقدِّمون صلواتهم بدون تكاسُل، بل باجتهادٍ ومثابرة. لأنّه إن كان المجيء المستمرّ للأرملة المظلومة قد تَغَلَّبَ على القاضي الظالم -الذي لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا- حتّى أنّه رغمًا عن إرادته أنصَفَها، فكيف مَن يُحِبّ الرحمة ويُبغِض الإثم، ومَن يُقدِّم دائمًا يد المعونة لِمَن يُحِبُّونه، فكيف لا يَقبَل أولئك المتقدّمين إليه نهارًا وليلاً، ولا ينصفهم إذ هم مُختاروه؟

    + الذين يُسيئون إلى القدّيسين عددهم عظيم جدًّا.. مثل عصابات الهراطقة.. هؤلاء يَضطهِدون ويُضايِقون كلّ مَن يسير باستقامة في الإيمان.. ينبغي لكلّ مَن هُم معروفون لدى الله أن يُقدِّموا توسُّلات من جهة هؤلاء الناس، مُقتَدين في هذا بالرُّسُل القدّيسين الذين صاحوا ضدّ شرّ اليهود، وقالوا: "والآن يارب انظر إلى تهديداتهم، وامنح عبيدك أن يتكلّموا بكلامك بكلّ مجاهرة" (أع4: 29).

    + ربّما يقول قائل: قال المسيح في موضعٍ ما للرسل القدّيسين "أحبّوا أعداءكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم" (لو6: 27، 28)، فكيف يمكننا أن نصرخ ضدّهم بدون أن نكون بذلك قد احتقرنا وصيّة إلهيّة؟!

    + على هذا نجيب قائلين.. عندما تكون الإساءات المُرتَكَبَة في حقّنا شخصيّة، نعتبره مجدًا لنا أن نغفر لهم، ونكون مملوءين بالمحبّة.. ونقتدي بالآباء القدّيسين، حتّى لو ضربونا واحتقرونا.. لكن عندما تُوَجَّه أيّ خطيّة ضدّ مجد الله، وعندما تتكدّس الحروب والمُضايَقات ضدّ الذين هم خُدّام للرسالة الإلهيّة، عندئذٍ نتقدّم في الحال إلى الله طالبين معونته، صارِخين ضدّ مَن يُقاومون مجده، مثلما فعل أيضًا موسى العظيم، لأنّه قال: "قُم يارب، فلتتبدّد أعداؤك، ويهرب مبغضو اسمك من أمامك" (عد10: 35 سبعينيّة).

    + يوجَد أناس يُتاجِرون بكلمة الحقّ، ويؤَثِّرون على كثيرين، ليتخلّوا عن الإيمان الصحيح، ويُوَرِّطونهم في اختراعات الضلال الشيطاني.. نحن كخُدّام أمناء نتقدّم إلى الله ضدّ هؤلاء، متوسِّلين إليه أن يُلاشي ويُبطِل شرّهم ومحاولاتهم ضدّ مجده.

    + يوجَد آخَرون أيضًا مِمَّن يُسيئون إلى خُدّام الله. ينبغي أن نُقاومهم بالصلاة. ومَن هُم هؤلاء؟ هم القوّات الشرّيرة المُضادّة، والشيطان عدوّنا جميعًا، الذي يقاوِم بشراسة أولئك الذين يعيشون حسنًا، والذي يوقِع في مصائد الشرّ كلّ مَن ينام، والذي يزرع فينا بذار كلّ خطيّة، لأنّه يحارِب ضدّنا بشراسة.

    + لذلك نقول في صلواتنا لِمَن هو قادر أن يُخَلِّص، وقادر أن يدفع بعيدًا عنّا ذلك الكائن الشرّير: "انصفني من خصمي". وهذا ما قد فعَلَه كلمة الله الوحيد بصيرورته إنسانًا، لأنّه طرح رئيس هذا العالم من طغيانه علينا، وخلّصنا ونجّانا ووضعنا تحت نير ملكوته. لذلك ما أروع أن نطلب بصلاة دائمة، لأنّ المسيح سيقبل توسُّلاتنا ويُتَمِّم طِلباتنا.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 119) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]