الهدف من تبعيّة الربّ يسوع

    اختارت لنا الكنيسة أن تكون أناجيل الآحاد الثلاثة الأولى من شهر أمشير، كلّها من الأصحاح السادس لإنجيل يوحنّا؛ والذي يدور كلّه حول مُعجزة إشباع الجموع، ثمّ بحث الجموع عن الربّ يسوع في اليوم التالي، وتعليمه لهم عن الطعام الباقي للحياة الأبديّة؛ الذي هو الخبز الحيّ النازل من السماء، أي جسده ودمه الأقدسين، وأهمّيّة التناول منهما.

    لعلّ الكنيسة تهيّئنا قبل بدء فترة الصوم المقدّس، لكي نرتفع فوق مستوى الطعام الجسداني، طالبين الطعام الذي يُغذِّي الروح.

    القدّيس كيرلّس الكبير في شرحه لهذا الأصحاح، يكتب الكثير من التأمّلات والتعاليم العميقة، التي تستحقّ أن نقف عندها، ونُغذِّي بها أرواحنا. لذلك اخترتُ أن أضع في هذا المقال بنعمة المسيح بعض المقتطفات من كلامه الجميل:

    + مَن يُريد اقتفاء خطوات المسيح، وبقدر ما هو مُستطاع للبشر، لكي يتشَكَّل الإنسان حسب مثاله هو، لا يجب أن يحيا في حُبّ التفاخُر، ولا ينحرف وراء المديح، حين يُمارِس فضيلة، ولا يتفاخَر حين يدخُل في حياةٍ غير عاديّة بنُسكٍ كثير، بل عليه أن يشتاق أن تراه عينا الله فقط.

    + "جاءوا إلى كفر ناحوم يطلبون يسوع". كان هؤلاء الناس يتبعونه، وربّما يتعجّبون من معجزاته، ومع هذا لا ينتفعون بها من جِهة ما يُحَتِّمه الإيمان.. كانوا يُسَرُّون فقط بملذّات الجسد، ويتقافزون بلهفة على الأطعمة البائدة، بدلاً من الإسراع إلى الغذاء الروحي، والسعي إلى ما يُمكِن أن يُعطيهم الحياة الأبديّة.

    + "يا معلّم، متى صِرتَ هُنا؟" كان حديثهم إلى الربّ يبدو وكأنّه حديث أناس يحبّونه، وإن كانوا يتظاهرون باللُّطفِ، لكنّهم مُدانون.. لأنّه كان يجب عليهم عند مقابلتهم لـمُعَلِّم عظيم بهذا القدر، ألاّ يتحدّثوا بغير هدف.. لأنّه ماذا كانت الحاجة إلى تَلَهُّفِهم على سؤاله، متى صار هناك؟ وما الخير الذي يمكن أن يعود عليهم من معرفتهم الإجابة؟ علينا إذن أن نطلب الحكمة من الحكماء، مُفَضِّلين الصمتَ الرزين على الكلمات غير المُنضَبِطة.

    + "أنتم تطلبونني ليس لأنّكم رأيتم آياتٍ، بل لأنّكم أكلتم من الخبز فشبعتم". المُخَلِّص يلوم أولئك.. لأنّهم قد تبعوه لأجل منفعة جسدانيّة، وتلك من أحقر الأمور.. علينا أن نطيع المسيح ونحبّه، لا بغرض الحصول على الخيرات الجسدانيّة، بل لكي ننال منه الخلاص.

    + حينما رأى (الربّ) أنّهم كانوا مُصابين بالمرض السابق ذِكره، وكطبيب ماهر يملك (أدوات) حِرفته، ابتكر عقارًا (ذا فائدة) مزدوجة لهم؛ فراح ينسُج التوبيخ المُناسِب بواسِطة مُعجِزة هي في غاية العظمة، والمُعجِزة التي سنجدها إذن هي في معرفة أفكارهم.. وإذ هو يَحكُم عليهم بسبب خطاياهم لأجل منفعتهم، فإنّه يَمنع بشكلٍ ما تيّار الشرّ مُستقبَلاً؛ لأنّه إن لم يتمّ منعه يزحف ويتغلغل.. لهذا يُفيدهم الربّ بالتوبيخ.

    + "اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبديّة". يُعَلِّمنا بولس شيئًا من هذا القَبيل، حيثُ يُوَسِّع من نطاق الحديث بشكلٍ يشمل العالم كلّه، وبصورة أكثر عموميّة، قائلاً: "لأنّ مَن يزرع لجسده فمِن الجسد يحصد فسادًا، ومَن يزرع للروح فمِن الروح يحصد حياةً أبديّة". لأنّه يقول إنّ الذين يزرعون للجسد، هم أولئك الذين يُطلِقون العنان كاملاً لشهوات الجسد، مُندفعين بأقصى سُرعة إلى كلّ ما يرغبون فيه، دون أن يُمَيِّزوا بأيّ حالٍ، بين ما هو نافعٌ لهم وما هو ضارٌّ ومؤذٍ.. ودون هوادة يهرعون إلى ما هو جالبٌ لِلّذة.. مُفَضِّلين هذا العدَم على الأمور غير المنظورة.

    + يؤكِّد الرسول مرّة أخرى، أنّ الذين يزرعون للروح هم أولئك الذين يَصرِفون جُلّ قصد فكرهم إلى تلك الأمور التي يريد الروح القدس لنا أن نسمو فيها، مستثمرين ذِهنًا منهَمِكًا بكلّيّته في فِلاحة الصالحات. أولئك الذين لا يستجيبون لنداء الطبيعة إلاّ فيما لا يُمكِن غضّ الطرف عنه، في قضاء حاجات الجسد من مأكَل، وهم قد لا يحتملون حتّى النزول لهذا المستوى.

    + أعتقد إذن أنّ علينا ألاّ نصنع تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات (رو13: 14)، بل بالحريّ، نلتفت إلى ما هو نافع بالأكثر، وأن نكون غيورين في مُمارسة تلك الأمور، التي تُحضِرنا إلى الحياة الإلهيّة والأبديّة.

    + هكذا فلنفكِّر كيف ندَع الجزء الأفضل فينا (الروح) يقوم بعمله حسنًا. لأنّه رغم أنّ الجسد له بعض الرغبات الحسنة.. فإنّ هذا لن ينفع النفس البائسة.. لكن إن كان الجسد قد لُجِّمَ بالتعقّل الملائم، وأُخضِعَ لناموس الروح، فإنّ الجسد والروح كليهما يخلصانِ معًا. لذلك يُصبِح في منتهى السَّخَف، أن نهتمّ بالجسد الذي هو إلى حينٍ، والذي سيضمحلّ.. ولا نهتمّ بالنفس، وكأنّها شيء زائد لا لزوم له.

    + علينا إذن، كما يقول المُخلِّص، ألاّ نعمل "للطعام البائد" الذي إذا ما مَرّ إلى الأمعاء، والذي يجعل العقل ينتشي لبُرهة وجيزة جدًّا بأتفه الملذّات، فإنّه يتحوّل إلى نفاية، وسُرعان ما يُقذَف خارج البطن مرّة أخرى. لكنّ الطعام الروحاني الذي "يسند قلب الإنسان" (مز104: 15)، يحفظ الإنسان إلى حياةٍ أبديّة، الذي وعد المسيح أيضًا أن يهبه لنا، قائلاً: "الذي يعطيكم ابن الإنسان"، إذ أنّه يتكلّم عن جسده المتّحد بلاهوته، وبذلك يكون قد ربط كلّ سِرّ التدبير بالجسد، في ترتيبه الصحيح. لكنّه في رأيي يُلَمِّح إلى الطعام السِّرِّي الأكثر روحانيّة، الذي بواسطته نحيا فيه، مُقَدَّسين نفسًا وجسدًا..

   أمّا بقيّة الآية "التي يعطيكم ابن الإنسان، لأنّ هذا الله الآب قد ختمه" (يو6: 27) فقد كان تعليق القدّيس كيرلّس عليها طويلاً ودسِمًا، وأفرَدَ له عِظةً جديدة، لذلك اسمحوا لي أن أضعه في مقالٍ مُقبِل بنعمة المسيح.

[عن شرح إنجيل يوحنّا للقدّيس كيرلّس السكندري - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد وآخَرين]