من كنوز القديس كيرلس عمود الدين (65) الأمين في القليل

       "لا تقدرون أن تخدموا الله والمال"

    بعد أن قدّم الربّ يسوع للجموع مَثَلَ وكيل الظُّلم، قال: "الأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ، وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟ لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ" (لو16: 10-13). والقدّيس كيرلّس الكبير له شرح وتأمّل طويل على هذا الكلام، يسعدني أن أقدّم لكم في هذا المقال بعض المقتطفات الجميلة مِنْه:

    + كان المسيح آنذاك يُعَلِّم الأغنياء، أن يَشعُروا ببهجةٍ خاصّةٍ في إظهار الشَّفَقة والعطف نحو الفقراء، وفي مَدّ يدِ العون لكلّ مَن هم في احتياج، وهكذا يكنزون لهم كنوزًا في السماء.

    + يارب اشرح لنا المعنى، وافتح أعيُن قلبنا.. القليل إذن هو مال الظُّلم، أي الثروة الدنيويّة، التي جُمِعَت في الغالب بالابتزاز والطّمَع. أمّا مَن يعرفون كيف يعيشون بالتقوى، ويعطشون إلى الرجاء المكنوز لهم، ويسحبون ذهنهم من الأرضيّات، ويُفَكِّرون بالأحرى في الأمور التي فوق، فإنّهم يزدرون تمامًا بالغِنى الأرضي.

    + يُوَبِّخ تلميذ المسيح الأغنياء بقوله: "هلمّ الآن أيّها الأغنياء، ابكوا مُوَلْوِلين على شقاوتكم القادمة؛ غناكم قد تهرَّأ، وثيابكم قد أكلها العُثّ. ذهبكم وفضّتكم قد صَدِئا، وصدأهما يكون شهادةً عليكم" (يع5: 1-3). فكيف صدأ الذّهب والفضّة؟ بكونهما مخزونَيْن بكمّيّات هائلة، وهذا بعينِهِ هو شهادةٌ ضدّهم أمام منبر الدينونة الإلهي، لكونهم غير رحومين، لأنّهم جمعوا في كنوزهم كمّيّات كبيرة لا يحتاجون إليها، ولم يعمَلوا أيّ اعتبارٍ لمَن كانوا في احتياجٍ، مع أنّه كان في استطاعتهم -لو هُم رغبوا- أن يصنعوا خيرًا بسهولةٍ لكثيرين، ولكنّهم لم يكونوا أمناء في القليل.

    + لكن بأيّ طريقةٍ يمكن للناس أن يصيروا أمناء؟ هذا ما علّمنا إيّاه المُخلِّص نفسه بعد ذلك، وأنا سأشرح كيف.. معنى أن يكون الإنسان أمينًا في القليل، أن تكون له شفقة على مَن هُم في احتياجٍ، ويوزِّع مساعدةً مِمّا لديه لِمَن هُم في ضيقٍ شديد.

    + إن كُنّا غير أمناء في القليل، بعدم تكييف أنفسنا وِفقًا لمشيئة الله، وبإعطاء أفضل قِسم من أنفسنا لملذّاتنا وافتخاراتنا، فكيف يمكننا أن ننال منه ما هو حقٌّ؟ (أو ما هو حقيقيٌّ؟) وماذا يكون هذا الحقّ؟ هو الإنعام الفائض لتلك العطايا الإلهيّة التي تزيِّن نفس الإنسان، وتجعل فيها جمالاً شبيهًا بالجمال الإلهي. هذا هو الغِنى الروحي، وليس الغِنى الذي يُسَمِّن الجسد المُمسِك بالموت، بل هو بالأحرى ذلك الغِنى الذي يُخَلِّص النفس، ويجعلها جديرة بأن يُقتَدَى بها، ومُكَرَّمة أمام الله، والذي يُكسِبها مَدحًا وأمجادًا حقيقيّة.

    + لذلك، فمِن واجبنا أن نكون أمناء لله، أنقياء القلب، رحومين وشفوقين، أبرارًا وقدّيسين، لأنّ هذه الأمور تطبع فينا ملامح صورة الله، وتكَمِّلنا كورثة للحياة الأبديّة، وهذا إذن هو "الحقّ".

    + "ما هو للغير" هو الغِنى الذي نمتلكه، لأنّنا لم نولَد أغنياء بل على العكس، فقد وُلِدنا عُراة، ويمكننا أن نؤكِّد هذا عن حقّ بكلمات الكتاب: "لأنّنا لم ندخُل العالَم بشيء، وواضح أنّنا لا نقدر أن نخرُج منه بشيء" (1تي6: 7).. لذلك، فلا يملك أيّ إنسان بمقتضى الطبيعة أن يكون غنيًّا.. بل إنّ الغِنى هو شيء مُضاف عليه من خارجه، فهو مُجَرَّد إمكانيّة (أي يمكن أن يوجَد أو لا يوجَد)، فلو باد الغِنَى وضاع، فهذا أمرٌ لا يَخِلّ بأيّ حالٍ بخصائص الطبيعة البشريّة.. ولكن ما هو لنا، وخاصّ بالطبيعة البشريّة هو أن نكون مؤهَّلين لكلّ عملٍ صالح، كما يكتب الطوباوي بولس: "قد خُلِقنا لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدّها لكي نسلك فيها" (أف2: 10).

    + لذلك فعندما يكون البعض غير أمناء "فيما هو للغير"، أي في تلك الأشياء التي هي مُضافةً إليهم من الخارج، فكيف سينالون ما هو لهم؟ كيف سيصيرون شركاء الخيرات التي يعطيها الله، والتي تزيِّن نفس الإنسان، وتطبع فيها جمالاً إلهيًّا، يتشكّل فيها روحيًّا بواسطة البِرّ والقداسة، وبتلك الأعمال المستقيمة التي تُعمَل في مخافة الله.

    + ليت مَن يملِكون مِنّا ثروة ارضيّة، يفتحون قلوبهم لأولئك الذين هُم في احتياجٍ وعَوَزٍ.. تلك الأشياء التي هي مِن خارج، وليست هي لنا لكي ما ننال ما هو لنا، الذي هو ذلك الجمال المُقدَّس والعجيب، الذي يُشَكِّله الله في نفوس الناس إذ يصوغهم على مثاله، بحسب ما كُنّا عليه في الأصل.

    + شيء مستحيل لشخص واحد بعينِه أن يُقَسِّم ذاته بين متناقضاتٍ.. فالربّ يوضِّح هذا بقوله: "لا يقدِر خادم أن يَخدِم سيّدين" (لو16: 13).. لأنّه لو كان لإنسانٍ أن يكون خادِمًا لسيّدين لهما مشيئتان مختلفتان ومتضادتان، وفكر كلّ واحد غير قابل للتصالُح مع الآخَر، فكيف يمكنه أن يرضيهما كليهما؟!

    + لذلك، يستحيل أن نخدم الله والمال. فمال الظُّلم، الذي يُقصَد به الغِنى، هو شيء يُسَلِّم للشهوانيّة.. ويُوَلِّد الافتخار ومحبّة اللذّة، ويجعل الناس غِلاظَ الرقبة، وأصدقاءَ للأشرار، ومتكبِّرين..

    + مسرّة الله الصالحة تَجعَل الناس لطفاء هادئين متواضعين في أفكارهم، طويلي الأناة رحومين، ولهم صبر نموذجي، غير مُحِبِّين للربح، غير راغبين في الغِنى، وقانعين بالقوت والكسوة فقط، ويهربون على الأخصّ من محبّة المال الذي هو أصل لكلّ الشرور (1تي6: 10)، ويباشرون بفرح الأتعاب لأجل التقوى، ويهربون من محبّة اللذّة.. ودائمًا يُقَدِّرون السّعي إلى الحياة باستقامةٍ، وممارسة كلّ اعتدال، باعتبار أنّ هذه الأشياء هي التي تربَح لهم المكافأة. هذا هو "ما هو لنا"، وما "هو الحقّ".

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 109) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]

* الأيقونة لفنّانة الرسم القبطي تاسوني سوسن؛ وتصوّر الأرملة التي ألقت الفلسين في خزانة الهيكل، وهي لا تجعل شمالها تَعلَم ما تفعل بيمينها.