من كنوز القديس كيرلس عمود الدين (64) وكيل الظُّلم

    مَثَل "وكيل الظُّلم" كما ذُكِرَ في (لو16: 1-9)، هو من الأمثال التي يحتار الكثيرون في فهمها.. ولكنّ القدّيس كيرلّس الكبير يشرح هذا المثل بأسلوب إجمالي جميل وواضح، يسعدني أن أقتطف من كلامه هذه الفقرات اللطيفة، كمُقدِّمة لفهم المَثَل، ثمّ في المقال القادم نأتي لشرح تفصيلي عن الأمانة في القليل، والتعامُل مع المال بوجه عام:

    + إنّ الأمثال تشرح لنا بطريقة غير مُباشِرة ومجازيّة الكثير مِمّا هو لبنائنا، على شرط أن نتأمّل معناها بطريقة مُختَصَرة ومُلَخّصة، لأنّه ليس لنا أن نفحص كلّ عناصِر المَثَل بتدقيق وتَطَفُّل.

    + (فمثلاً) الإنسان الذي كان له وكيل.. مَن هو؟ وأيضًا مَن هم المديونون له.. ولأيّ سببٍ قيل إنّ واحدًا مَدين بالزيت، والآخَر بالقمح؟!

    + ليست كلّ أجزاء المَثَل هي بالضرورة، ومِن كلّ جهة، نافعة لشرح ما تُشير إليه الأشياء، بل هي قد أُخِذَت لتكُون صورة لأمرٍ هامٍ مُعَيَّن، وهو يقدِّم دَرسًا لأجل منفعة السامعين.

    + لذلك، فإنّ مَغزَى المَثَل الحالي هو:

    "الله يريد أنّ جميع الناس يخلُصون، وإلى معرفة الحقّ يُقبِلون" (1تي2: 4).. لذلك فإنّ ربّ الكلّ يُريدُنا أن نكون راسخين تمامًا في سَعيِنا نحو الفضيلة، وأن نُثَبِّت رغباتنا نحو الحياة المُقدَّسة الأفضل، وأن نُحرِّر أنفسنا من ارتباكات العالم، ومِن كلّ محبّة للغِنى، ومن اللذّة التي تجلبها الثروة، لكي ما نخدم الله باستمرار، وبعواطِف غير منقسمة، لأنّه يقول أيضًا بقيثارة المُرَنِّم: "ثابروا واعلَموا أنّ أنا هو الله" (مز46: 10).

    إنّ مُخَلِّص الكلّ يقول بفمِهِ لكلّ مَن يقتنون ثروات دنيويّة: "بيعوا ما لكم وأعطوا صدقةً، اعمَلوا لكم أكياسًا لا تفنى، وكنزا لا ينفَذ في السماوات" (لو12: 33). إنّ هذه الوصيّة هي في الواقِع لأجل خلاصنا، لكن ذِهن الإنسان ضعيف جدًّا، أو مُثَبَّت باستمرار على أمورٍ أرضيّة، وهو غير راغب في الابتعاد بنفسه عن لذّة الغِنى. إنّه ذِهنٌ يحبّ المجد الباطل، ويرتضي جدًّا بمديح المنافقين.. لأنّه طالما أنّ الإنسان يعيش في غِنى ولذّة، فإنّه يُهمِل التقوى من نحو الله، لأنّ الثروة تجعل الناسَ مُتكَبِّرين وتَزرع في أذهان مَن يمتلكونها بِذارَ كلّ شهوانيّة.

    إذن، أليس هناك طريق لخلاص الأغنياء؟ لا، ليس الأمر هكذا، انظُر فهوذا المخلِّص قد أَظهِرَ لهم وسيلةً للخلاص في المَثَل الحاضر، فقد جعلهم الله موكَّلين على ثروة عالميّة بسماح ورحمة من الله القدير، لكن بحسب قصدِهِ فقد:

    جُعِلوا وكلاء لأجل الفقراء..

    الله يقول: "ابسط مراحمك لأخيكَ، ذلك الذي يحتاج إليك" (تث15: 8 سبعينيّة)، والمسيح نفسه مُخَلِّصنا يقول: "كونوا رُحُماء كما أنّ أباكم أيضًا رحيم" (لو6: 36).. حتّى ولو كانوا غير راغبين في إعطاء كلّ ثروتهم للفقراء، فعلى الأقلّ عليهم أن يقتنوا لهم أصدقاء بجزء منها.. حتّى إذا انقطعت عنهم ثروتهم الأرضيّة، يمكنهم أن يقتنوا لهم موضِعًا في مَظَالِّهم [أي وسط مساكِن الأبرار في السماء]، لأنّه من المستحيل أن تكون محبّة الفقراء بلا مكافأة. لذلك سواء أعطَى الإنسانُ كلّ ثروته، أو أعطى جزءًا منها، فإنّه بالتأكيد سوف يَنفَع روحه.

    لذلك فهو عمل يليق بالقدّيسين، وجدير بالمديح الكامل، والذي يؤدِّي إلى رِبح الأكاليل التي فوق، أن لا يَكنِز الإنسان ثروةً أرضيّة، بل يوزِّعها على مَن هُم في احتياج، لكي يَكنِز بالأحرى ما هو في السماوات.

    لذلك فمِنَ الواجِب علينا، إن كان لنا قلبٌ مستقيم، وإذا ثبَّتنا عينَ الذّهن على ما سوف يكون فيما بعد.. أنّ نتذكَّر الله الذي يُرِيدُنا أن نُظهِر رحمةً نحو إخوتنا، وأن نتألّم مع المرضي، وأن نبسِط أيدينا لِمَن هم في احتياج، وأن نُكرِّم القدّيسين [هُنا يقصد خُدّام الله الكارزين] الذين يقول المسيح عنهم: "مَن يقبلُكم يقبلني، ومَن يقبلُني يقبلُ الذي أرسلني" (مت10: 40).

    الرحمة للإخوة إنّما هي ليست بدون فائدة أو نفع، لذلك يُعلِّمنا المُخَلِّص نفسه، ويقول: "مَن يُعطِي كأسَ ماءٍ باردٍ باسم تلميذ، لن يضيع أجره" (مت10: 42). لأنّ مخلِّص الجميع هو سخيٌّ في العطاء.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 108) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]