حَمَل الله حامل خطايا العالم

    + كان رئيس الملائكة غبريال هو أول من كشَف، في العهد الجديد، عن رسالة السيِّد المسيح الله المتجسِّد، عندما قال للقديس يوسف النجار عن السيِّدة العذراء بخصوص حَبَلِها الإلهي.. "ستلِد ابنا، وتدعو اسمه يسوع، لأنّه يخلِّص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21).

    + ثمّ ظهرَتْ الملائكة بعد ذلك للرعاة، وقت ميلاد الربّ يسوع، وقال واحِدٌ منهم: "وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخلِّص هو المسيح الرب" (لو2: 11).. فالواضح تمامًا أن السيِّد المسيح جاء لكيّ يخلِّص العالم من الخطيّة.. ولكن كيف؟! كيف سيحرِّر الناس منها؟ كيف يمحوها؟ كيف يكسر سلطانها؟!

    + هنا نأتي لشهادة القديس العظيم يوحنا المعمدان، الذي أرسله الله ليكون الملاك الذي يهيِّئ الطريق أمام الربّ المُخلِّص، فعندما رأى يسوعَ مُقبِلاً إليه قال: "هوذا حَمَلُ الله الذي يرفع خطيّة العالَم" (يو1: 29).. وهنا يتّضح لنا الأمر بمستوى أفضل.. فالسيِّد المسيح سيخلِّصنا من خطايانا، بأن يَرفَع هذه الخطايا عن عاتقنا ويَحمِلها عنّا.. فهو الحمَل الإلهي البريء، الذي سيحمل خطايا العالم كلّه، ويقدِّم نفسه ذبيحةً ليفتَدِيَ الخُطاة، فيصيروا مُبَرَّرين به.. بمعنى أنّه يأخُذ ما لنا من فساد، لكي يعطينا ما له من بِرّ..

    + نلاحظ أنّ هذه المُبادَلة الخلاصيّة قد تمّت داخل جسده، بمعنى أنّنا كُنّا فيه وليس خارجه عندما تجسَّد، ولم نَكُن نتفرّج عليه من الخارج عندما حمل خطايانا.. بل كما يقول الوحي الإلهي: "الكلمة صار جسدًا وسكن فينا" (يو1: 14)؛ وباتّحاده بنا، أخذ الذي لنا، أي امتصّ مِن طبيعتنا الفساد والموت الذي فيها، وأبادهما على الصليب؛ ووهبنا الذي له، أي وَهَبَنا -في جسده- نعمة البنوّة لله، وجعل روحَهُ يَسكُن فينا، فصرنا هيكلاً مُقَدَّسًا لله.

    + لذلك لا نتعجّب أنّه أخذ جسدًا مثلنا، وعاش وسط الخطاة، وهو بلا خطيّة.. وتقدَّم إلى يوحنا ليعتمِد مِثل الخطاة، إذ أنّ هدفه أن يُمَثِّل الإنسان الخاطئ أمام الله.. وبينما هو في هذه الصورة المُتّضعة جدًّا، يُمجِّده الآب بصوتٍ من السماء: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرت" (مت3: 17).. وأيضًا الروح القدس بالظهور في هيئة حمامة مُستقرَّة عليه.. ولعلّ الله كان في هذا الموقِف يَرسِم أمامنا الطريق للمَجد؛ بأنْ نتّضع مثله ونسير في نفس خطواته المتّضعة.. فكما حمل خطايانا وأثقالنا نفعل نحن أيضًا مع إخوتنا مُنَفِّذين وصيّة الإنجيل "احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح" (غل6: 2).

    + ما عَجَزَ عنه الإنسان جاء المسيح ليقوم به.. فالإنسان أخطأ، ولكنّه لم يعترِف بخطيئته، ولم يقف أمام الله كخاطئ، بل أخذ يبرِّر نفسه ويُلقي باللوم على آخرين (تك3: 12-13).. ولهذا جاء المسيح، حاملِاً إيّانا فيه، ووقف في وضع الخاطئ أمام يوحنا الكاهن، الذي تعجَّب من هذا وامتنع أولاً عن تتميم المعموديّة له، إذ أنّ المعموديّة للخطاة فقط.. ولكنّ السيِّد المسيح باتّضاعه وتدابيره الإلهيّة التي تفوق العقول أصرّ على تكميل البِرّ الذي عجز عنه الإنسان.. بِرّ الاتضاع وإنكار الذات، بِرّ حمل أثقال الآخرين، بِرّ التوبة والرجوع إلى الله المتمثِّل في شخص وكيله المنظور (الكاهن).. وقد أوضح هذا ليوحنا قائلاً: "اسمح الآن. لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل بِر" (مت3: 15)..

    + هذا الحَمَل الإلهي الذي بغير خطيّة يتقدّم اليوم لينحني تحت يد يوحنا الكاهن، لكي يكون سابقًا لنا فاتحًا لنا الطريق إلى اقتناء برّ الله، عندما نسير وراءه متمثِّلين به في توبةٍ حقيقيّة صادقة، واعترافٍ صريح بخطايانا أمام الكاهن وكيل أسرار الله.. لكي ننال غفرانًا وتبريرًا وحياةً جديدة..!

    + فعندما نعترف بخطايانا تنتقل من علينا ليَحمِلها اللهُ عَنّا.. ولعلنا نتذكّر داود النبي عندما اعترف قائلاً: "قد أخطأت إلى الرب" فسمع في الحال من ناثان النبي القول: "الربُّ أيضًا قد نقل عنك خطيّتك. لا تموت." (2صم12: 13). وهذا ما يَحدُث في سِرّيّ الاعتراف والتناول؛ إذ يأخذ الأب الكاهن الخطايا التي اعترفنا بها وينقلها إلى المذبح الإلهي، قائلاً: "يا الله الذي قبل إليه اعتراف اللصّ اليمين على الصليب المكرّم، اِقبَلْ إليك اعترافات شعبك، واغفر لهم جميع خطاياهم، من أجل اسمك القدوس الذي دُعِيَ علينا، كرحمتك يارب ولا كخطايانا".. وقبل أن نتناول من الذبيحة يَصرُخ الكاهن قائلاً: "يُعطَى عَنّا خَلاصًا، وغُفرانًا للخطايا، وحياةً أبديّة لمَن يتناول منه".

    + الله -في محبّته- يريد أن يبرِّرنا، ويهبنا الحياة الأبديّة.. لذلك فقد حَمَلَنا في جسده، وأكمل الناموس عنّا بكلّ اتضاع، ورسم لنا طريق التبرير من خطايانا بشكل شخصي، خلال الأسرار الكنسيّة المقدّسة، التي يَعمَل روحُهُ القُدُّوس فيها، لأجل تبريرِنا وتقديسنا وتهيئتنا لشركة الحياة الأبديّة المجيدة معه.. من أجل هذا نُسَبِّحه ونمجّده ونزيده علوًّا، لأنّه صنع معنا رحمةً كعظيم رحمته..!

    + السيد المسيح دخل إلى مياه الأردن ليَغسِل طبيعتَنا، ويُجَدِّدَها. فتَستحِق أن تُمسَح فيه بالروح القدس؛ فإنّ حلول الروح القدس على الربّ أثناء معموديّته، ليس لأنّه كان يفتقرّ للروح قبل ذلك، فهو واهب الروح، بل لكي يهب الطبيعة البشريّة المتّحدة به أن يعود الروح القدُس ليسكُن فيها مرّة أخرى، بعد أن فارقها بالخطيّة، بل ويَثبُت فيها إلى الأبد.. وعندها يشهد الله الآب لكلّ واحد مِنّا -أثناء خروجه من جُرن المعموديّة- قائلا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 17).. "هذِهِ هِيَ شَهَادَةُ اللهِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ابْنِهِ. مَنْ يُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ فَعِنْدَهُ الشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ..." (1يو5: 9-11).

    هكذا أكمل الربُّ كلّ بِرٍّ لأجل خلاصنا.

    بركة عيد معموديّة ربّنا يسوع المسيح تكون معنا جميعًا. آمين.