قِمّتان في التواضع

    السيّدة العذراء والقديسة أليصابات هما قمّتان في التواضع، وهذا ما كشف عنه لقاؤهما الجميل.. وبالتالي انكشف لنا سرّ عظمتهما، وسبب استحقاقهما لأن تكون الواحدة والدة الإله المتجسِّد، والأخرى والدة أعظم مواليد النساء..!

    الكمال هو بحر من الاتضاع، كما يقول مار إسحق السرياني.. وعندما يمتلئ القلب بروح الاتضاع تستطيع نعمة الله أن تعمل فيه بكلّ حريّة، وتتدرّج به في مراتب الكمال.. وهذا ما حدث في حياة أمنا العذراء وأيضًا في حياة القديسة أليصابات..

    نقف قليلاً أمام بعض ملامح التواضع التي ظهرت في حياة هاتين القديستين، ونتأمّل في أنفسنا هل هذه الملامح موجودة عندنا أم غائبة..؟!

   ١- المتواضع يشكر ويسبّح ويعظّم الرب.. فهو باستمرار يشعر أنّ الله يعطيه أكثر ممّا يستحق، لذلك فهو دائم الشكر، كما رأينا السيّدة العذراء تشكر وتسبّح "تعظّم نفسي الرب.. القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه.."، وأيضًا أليصابات المتواضعة تقول: "مِن أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ..؟!" فهي تستكثر على نفسها هذه النعمة العظيمة أن تزورها والدة الإله في بيتها..!

   ٢- المتواضع يمتلئ من الروح القدس.. لأن الروح القدس يرتاح في القلوب المتّضعة، وينساب بسهولة وبفيض فيها؛ بعكس القلوب المتعالية، التي يصعُب عليه أن يعمل فيها.. هكذا كانت العذراء ممتلئة نعمة، وقال لها الملاك: "الروح القدس يحلّ عليكِ".. وأيضًا أليصابات عند لقائها مع أم النور امتلأت من الروح القدس.. فالقلوب المتواضعة تكون دائمًا مُستعدّة للامتلاء من الروح القدس.

   ٣- المتواضع يفرح ويتهلّل.. وهذا نتيجة طبيعيّة لعمل الروح القدس في القلب، فهو روح الفرح الحقيقي.. لذلك كانت العذراء متهلّلة وهي تسبّح وتقول: "تتهلّل روحي بالله مخلّصي"، وأيضًا أليصابات امتلأت من الفرح، حتّى أنّ جنينها أيضًا امتلأ من الروح القدس وارتكض بابتهاجٍ في بطنها.. فكلّ هذا ثمر للاتضاع.. أمّا المتكبّر فيبحث عن الفرح ولا يجده..!

   ٤- المتواضع يجتذب عيني الرب، فينظر له ويفيض عليه بنعمته.. وهذا ما قالته أليصابات عندما حبلت: "هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إليّ لينزع عاري من بين الناس" (لو1: 25)، فالله ينظر إلى المتواضعات، كما نقول في القدّاس الإلهي.. وهذا أيضًا ما أكّدته السيدة العذراء في تسبحتها: "لأنه نظر إلى اتضاع أمته" (لو1: 48).

   ٥- المتواضع يُخفي نفسه ويبتعد عن الأضواء والشُّهرة.. فالذي تذوّق نعمة الله بالحقيقة، وهو لا يزال يشعر بصِدق بعدم الاستحقاق، يكون قليل الكلام.. بل يُفضِّل دائمًا أن يحتفظ بأسراره مع الله، ليتلذّذ بها في هدوء، ولا يبحث عن تمجيد الناس ومديحهم لأن نعمة الله قد أشبعته.. وهذا ما نراه في القديسة أليصابات التي أخفت نفسها خمسة أشهر بعد حبلها.. وأيضا نراه بوضوح في فخر جنسنا العذراء مريم، العملاقة في اتضاعها، التي أخفت خبر البشارة حتّى عن يوسف النجار خطيبها، على الرغم من حرج موقفها أمامه.. ولكن الله تدخّل وأخبره بسرّ الحَبَل الإلهي بواسطة ملاك في حلم..!

   ٦- المتواضع يبذل ويخدم، ويبحث عن إسعاد الآخرين.. وهذا ما نراه واضحًا في أمنا العذراء التي ذهبت مُسرعةً في سفرٍ طويل يتجاوز 120 كيلومترًا، لكي تخدم أليصابات الحُبلى في شيخوختها.. ذهبت لكي تخدم، ولكنها فوجئت بالتكريم في انتظارها..! وهكذا يتأكّد صدق قول مار إسحق السرياني: [مَن عدا وراء الكرامة، هربت منه. ومَن هرب منها بمعرفة جرت وراءه وأرشدت الناس إليه].

   ٧- المتواضع يُمجِّد عمل الله في القديسين ويطوِّبهم.. بعكس المتكبّر الذي لا يرى إلاّ نفسه وأحواله وإنجازاته وإمكانيّاته.. فنرى مثلاً أليصابات المتواضعة لا تتحدّث عن حَبَلها المُعجزي، بل تمجِّد العذراء قائلةً: "طوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قِبَل الرب" (لو1: 45)، وأيضًا نرى العذراء والدة الإله تمجِّد عمل الله في قدّيسيه قائلةً: "عضّد اسرائيل فتاه ليذكر رحمةً. كما كلّم آباءنا. لإبراهيم ونسله إلى الأبد" (لو1: 54-55).

    هكذا دائمًا المتّضعون يرون عمل الله في قدّيسيه، فيمجّدون الله، ويطوّبون قدّيسيه، ويجاهدون لكي يتمثّلوا بإيمانهم..!