بمناسبة شهر كيهك - فتاة متنفِّسة بالله

    تسابيح كيهك هي تسابيح غنيّة مملوءة بالعبارات الجميلة ذات المعاني العميقة.. بخصوص التجسُّد الإلهي، وبخصوص أمّ النور والدة الإله التي تمّ التجسّد بواسطتها..

    لقدّ أحبّ آباؤنا القدّيسون أمنا العذراء جدًّا، ليس فقط لأنّها أتت للعالم بالمخلّص التي وهبنا الحياة والخلود، بل أيضًا لأنّها كانت نموذجًا إنسانيًّا رائعًا للاتحاد بالله، وللعِشرة الحلوة معه.. فقد كانت مُنسجِمة إلى أقصى درجة مع عمل روح الله فيها، في طاعة وتسليم واستعداد كامل لتقديم كلّ الحياة والإمكانيّات لتمجيد اسمه وتنفيذ مشيئته.. بلا أي هَوَى جسدي أو رغبة أرضيّة..!

    لذلك نجد أنّ كنيستنا المقدّسة قد حفظت لنا الكثير من التطويبات والمدائح التي كتبها الآباء وتغنّوا بها، تكريمًا لوالدة الإله القديسة مريم.. من أجل أن نتغنّى معهم من خلال هذه المدائح بفضائل العذراء، ونتأمّل معهم في شخصيّتها الفريدة، فتكون قُدوة لنا نحن الضعفاء الخُطاة.. ولعلّ شهر كيهك بوجه عام هو أكثر فترات السنة التي نقضيها في تمجيد والدة الإله، والتأمُّل في حياتها المزيَّنة بالفضائل، والتشفُّع بها لكي تساعدنا في جهادنا الروحي..

    والكنيسة في شهر كيهك تعطي اهتمامًا خاصًّا لتسبحة عشيّة يوم السبت، ولتسبحة نصف الليل ليوم الأحد، وبالذّات لثيؤطوكيّة السبت وثيؤطوكيّة الأحد.. فنحن نعرف أنّ هناك سبع ثيؤطوكيّات بعدد أيّام الأسبوع، وكلّ ثيؤطوكيّة تتكوّن من مجموعة من القِطَع التي تحوي شروحات عن التجسُّد الإلهي، والعديد من النبوّات والإشارات المتعلّقة به، كما تحوي تمجيدًا لوالدة الإله "الثيؤطوكوس" وتأملات كثيرة في حياتها وفضائلها..

    ثيؤطوكيّة السبت تتكوّن من تسع قطع.. وثيؤطوكيّة الأحد تتكوّن من خمس عشرة قطعة مزدوجة، وهي أطول الثيؤطوكيّات وأغناها بالمعاني والألحان.. وفي شهر كيهك جمعَتْ لنا الكنيسة العديد من المدائح باللغة القبطيّة والعربيّة مع قليل من المدائح الروميّة (اليونانيّة)، على كلّ قطعة من قِطَع ثيؤطوكيّتيّ السبت والأحد..

    من أجمل العبارات التي اخترقت قلبي، ما جاء في تسبحة عشيّة يوم السبت لشهر كيهك، وبالتحديد في التفسير الرومي على القطعة الثالثة لثيؤطوكيّة السبت.. التي يقول فيها المُرنِّم:

    "أنتِ هي مَرْكَبَةُ الله يا مريم، وميلادك لا يُفَسَّر، يا جوهرة عفيفة، وفتاة متنفِّسة بالله".

    فهو هنا يصفّ العذراء بأنّها هي المركبة الشاروبيميّة المَهيبة الحاملة لله، التي رآها حزقيال النبي في بداية نبوّته (حز1).. وأنّ ولادتها المعجزيّة للمسيح وهي عذراء هو أمرٌ غير قابل لتفسير بشري.. ثم يصفها بالجوهرة التي لم تتلوّث بالعالم، بل تعفّفَت عن كلّ شهواته، فاتّحدت بالله وصارت كإنسانة متنفِّسة بالله..!

    يا لها من كلمة..! "فتاة متنفّسة بالله"..!!

    عندما يتنفّس الإنسان، فهذا يعني أنّه يأخُذ كميّة من الهواء المملوء بالأُكسِجين، وهو المادّة اللازمة لحياة خلايا الجسم.. وإذا توقّف الإنسان عن التنفُّس، وغاب الأُكسِجين، تختنق الخلايا وتموت، وبالتالي يموت الإنسان... هذا على المستوى الجسدي..

    أمّا على المستوى الروحي، فالمسيح هو حياتنا (كو3: 4).. فكما أنّ الجسد يتنفّس الأُكسِجين باستمرار لكي يحيا ولا يموت، هكذا الروح ينبغي أن تتنفّس المسيح باستمرار لكي تحيا ولا تموت..

    لقد وُهِب لنا نحن المسيحيّين أن نتنفّس المسيح بالروح القدس عن طريق ثلاثة أعمال رئيسيّة؛ هي الصلاة وقراءة الكلمة الإلهيّة والتناول..

  1- الصلاة بأشكالها المتنوِّعة فيها ننطق باسم يسوع المخلّص ويتحرّك الروح فينا فنتزوّد بالقوّة الإلهيّة..

  2- قراءة الكلمة الإلهيّة هي استنشاق لنسمات الروح، فالكتب المقدّسة بحسب وصف الكنيسة هي "أنفاس الله" كما جاء في [إبصالية الأربعاء]، أو هي كما قال السيّد له المجد: "الكلام الذي أكلّمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63).. لذلك فإن التغذِّي بكلام الإنجيل يُحيي النفس، كما يقول المرتِّل: "فتحت فمي واجتذبت لي روحًا، لأني لوصاياك اشتقتُ" (مز119: 131)..

  3- أمّا التناول فهو أعلى درجات التنفُّس بالمسيح والحياة به، وهو الذي قال عنه الرب يسوع: "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم" (يو6: 53)..

    الكثيرون مِنَّا يتنفّسون أخبارًا سياسية واقتصاديّة واجتماعيّة، وربّما رياضيّة.. وكلّ هذا الهواء يفتقر للأُكسِجين الروحي، بل كثيرًا ما يمتلئ بالغازات الخانقة السامّة..

    أمّا المسيحي الحقيقي فهو يتنفّس الله في كلّ لحظة، فتنتعش حياته، وتُشرق فيه على الدوام صورة خالقه.

   + الذي يلهج بالمزامير، هو إنسان مُتنفِّس بالله.

   + الذي يردِّد اسم يسوع باستمرار، هو إنسان متنفِّس بالله.

   + الذي يستغرق في التأمّل في كلام الإنجيل، هو إنسان متنفِّس بالله.

   + الذي يبشِّر بحبّ المسيح وخلاصه، هو إنسان متنفِّس بالله.

   + الذي يملأ فمه من تسبيح الله طوال اليوم، هو إنسان متنفِّس بالله.

    لقد كان القدّيس البابا كيرلّس السادس إنسانًا متنفّسًا بالله، ولا يكفّ عن الصلاة والتسبيح، لدرجة أنّه عندما أجرى عمليّة استئصال الزائدة الدوديّة (في منتصف الخمسينيّات)، وأثناء الإفاقة من التخدير، صلّى القدّاس كلّه وعشرات المزامير، بينما كان في غير وعيه.. ونفس الوضع تمامًا تكرّر مع القدّيس القمّص بيشوي كامل، بعد العمليّة التي أجراها في لندن، قبل نياحته بحوالي سنتين..!

    لعلّنا مع التسابيح الغنيّة في هذا الشهر، نُدَرِّب أنفسنا كيف نكون متنفّسين بالله، كما عاش الآباء القدّيسون، وأمّنا العذراء الجميلة، الفتاة المُتنفِّسة بالله..؟!