بمناسبة عيد الشُّكر- الآب يهبنا العطايا الروحيّة

    القدّيس كيرلّس الكبير له تعليق جميل وغني على حديث السيّد المسيح المذكور في (لو11: 11-13)، بخصوص عطايا الآب السماوي الثمينة لأولاده الذين يسألونه، فيقول:

    + يحدث أحيانًا أن نقترب من إلهنا السخي، متوسِّلين إليه لأجل أمورٍ متنوّعة، بحسب رغبة كلّ واحد، ولكن هذا يحدث أحيانًا بدون تمييز، وبدون فحص جيّد لِما هو لنفعِنا، وما إذا كان ما سيمنحنا الله إيّاه هو حقًّا بركة، أو أنّ ما سنناله سيكون لضررنا؟!

    + أنت أبٌ، ولك أولاد. وتشدّك العاطفة الطبيعيّة نحوهم، وتريد أن تفيدهم بكلّ الطرق. لذلك، متى رأيتَ ابنك يطلب خبزًا فللتوّ تعطيه إيّاه وبكلّ مسرّة، إذ تَعلَم أنّه طعامٌ صحيّ. ولكن إن حدث، بسبب قصور الفهم والإدراك، أن يأتي طفل صغير، وهو لا يقدر أن يميِّز جيِّدًا ما يبصره.. ثمّ يسأل حجرًا ليأكل، فالربّ يقول: هل تعطيه؟ أم تجعله يكفّ عن مثل هذه الرغبة التي تؤدِّي إلى أذيّته؟!

    + إنّ أبانا السماوي مستعدٌّ تمامًا أن يسكب عطاياه علينا.. الله يريد أن نكون قدّيسين وبلا لوم، وأن نمضي بإقدامٍ واستقامة في كلّ عملٍ صالح، وأن نبتعد عن كلّ ما يُدنِّس، وعن محبّة اللذّة الجسديّة، وأن نرفض الاهتمامات العالميّة، وألاّ ننهمك في مشغوليّات عالميّة، وألاّ نحيا في الخلاعة وفي الإهمال، وألاّ نبتهج بالملذّات الجامحة، ولا نمارس حياة متسيِّبة. بل هو يريدنا أن نحيا حسنًا وفي تعقُّل بحسب وصاياه، واضعين الناموس الذي أعطانا، كضابط لسلوكنا، صائرين حارّين في السعي  نحو كلّ ما يؤدِّي رأسًا إلى بنياننا. فإن أردتَ أن تنال شيئًا من هذه الأنواع، فتقدّم إليه بفرح، فإنّ أبانا الذي في السماء، سيميل بسمعِهِ إليك، لأنّه يحبّ الفضيلة.

    + امتحِنْ إذن صلاتك، لأنّك إن طلبتَ شيئًا تصير بنوالك إيّاه مُحِبًّا لله، فكما قلتَ سيهبك الله إيّاه، ولكن إن كان أمرًا غير معقول أو مُضِرًّا لك، فإنّه سيسحب يده عنك، ولن يمنحك ما ترغب، أوّلاً: لأنّه لا يمنح شيئًا ذا طبيعة ضارّة، فهذا أمر غريب عنه تمامًا. وثانيًا: حتّى لا يصيبك ضررٌ بنوال هذا الأمر.

    + دعني الآن أشرح لك كيف يكون هذا؟ ولهذا الغرض سأقدِّم لك الأمثلة الآتية:

   1- إذا ما سألتَ ثروة، فلن تنالها من الله. لماذا؟ لأنّ الثروة تَفصِل قلب الإنسان عن الله، فالمال يولِّد الكبرياء والفجور وحُبّ اللذة، ويأتي بالناس إلى مهاوي الشهوات العالميّة.

   2- كذلك إن سألتَ قوّة عالميّة (سُلطة أرضيّة)، فالله سوف يُدير وجهه عن سؤالِك، إذ يعرف أنّ هذه الطِلبة ضارّة جدًّا لمَن يحوزها. إذ التعسُّف والاضطهاد يصاحبان دائمًا ذوي القوّة (السلطة) العالميّة، هؤلاء الذين يكونون في الغالب متكبّرين متسيِّبين منتفخين، وكراماتهم دائمًا وقتيّة.

   3- كذلك إن طلبتَ هلاك شخصٍ ما، أو طلبتَ أن يتعرَّض لعذابات شديدة، لأنّه ضايقك أو أزعجك في شيء ما، فالله لن يمنحك هذه الطِلبة. لأنّه يريد أن نكون طويلي الأناة، لا نجازي عن شرٍّ بشرٍّ، بل نصلّي لأجل الذين يضايقوننا، وأن نفعل الصلاح لمَن يؤذينا..

    + اسأل من الله عطايا روحيّة.. اسأل القوّة، حتّى تقدر بشجاعة أن تُقاوِم كلّ شهوة جسدانيّة. اسأل الله مزاجًا غير شهوانيّ، اطلب احتمالاً، ووداعةً، واطلب أمّ كلّ صلاح أي الصبر. اطلب طَبعًا هادئًا، وقناعةً، وقلبًا نقيًّا. واطلب بالأكثر الحكمة التي تأتي منه.

    + هذه الأشياء سيمنحها لك سريعًا، هذه التي تُخلِّص النفس، وتجعل فيها ذلك الجمال الأفضل، وتطبع فيها صورة الله. هذا هو الغِنى الروحاني، هذه هي الثروة العظيمة التي لا ينبغي أن نتخلّى عنها، هذه التي تُعِدّ لنا نصيب الصدّيقين، وتجعلنا أعضاء في شركة الملائكة القدّيسين. هذه تُكمِّلنا في التقوى، وسريعًا ما تقودنا إلى رجاء الحياة الأبديّة.. بمعونة المسيح مخلّصنا جميعًا..

[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 79) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]