التواضع

    اكتساب فضيلة التواضع هو رحلة جهاد يخوض فيها كلّ إنسان مسيحي، يريد أن تُشرِق في حياته صورة المسيح.. لذلك أودّ أن أتحدّث بتركيز في هذا المقال عن التواضع، وكيف نكتسبه؟!

    الموضوع سيشمل، بنعمة المسيح:

    مقدّمة، وكيف نتزيّن بالتواضع؟ مع أربع صفات في الإنسان المتواضع، وأخيرًا كيف أكتسب التواضُع بتداريب يوميّة عمليّة؟!

* مقدِّمة:

    + عندما يرى الإنسان نفسه بحجم أكبر من حجمه شخصيّته الطبيعي فهذا هو "الكبرياء".. وعندما يرى الإنسان نفسه بحجمٍ أصغر من حجمه الطبيعي فهذا هو "صِغَر النفس".. أمّا عندما يرى الإنسان نفسه بحجمه الطبيعي فهذا هو "الاتضاع"..!

    + التواضع هو الفضيلة التي من أجلها نظر الله إلى السيدة العذراء، واختارها لتكون أم الله، وملكة السمائيين والأرضيين.. لقد "نظر إلى اتّضاع أمته" (لو1).

    + دعوتنا كمسيحيين، هي أن نكون على صورة المسيح إلهنا، الوديع المتواضع القلب، الذي قال: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت11).

    + يدعونا القديس بولس الرسول للسلوك كما يحق للدعوة التي دُعينا إليها.. "بكل تواضع القلب..." (أف4).

    + التواضع هو أرض خصبة تستطيع أن تنمو فيها جميع الفضائل الأخرى.. فهو "أرض حاملة للفضائل" كما يقول القديس يوحنا الدَرَجي.

* كيف نتزيّن بالتواضع؟

    أولاً: لابد أن نحبّ التواضع لأنه سيملأنا من نعمة الله. كما يقول القدّيس مار إسحق السرياني: "الأعمال الصالحة والتواضع يُصيران الإنسان إلها على الأرض".

    ثانيا: التواضع هبة ونعمة من الله… يجب أن نطلبه بلجاجة شديدة.

    ثالثاً: إذا طلبنا نعمة الاتضاع، سيسمح الله لنا ببعض الآلام والإهانات والظلم، لكي تتّضع نفوسنا.. فلا يجب أن نقلق أو نهرب أو نتذمّر، بل نقبل كلّ ما يأتي علينا برضى وشكر.

    رابعاً: عندما تبدأ نعمة الاتضاع في الدخول إلى نفوسنا، سنشعر أنّنا لا شيء، وأنّ الله هو كلّ شيء في حياتنا.. عندئذٍ سيمتلئ قلبنا بسعادة ونور وسلام الحضور الإلهي على الدوام.. !

* أربع صفات في الإنسان المتواضع:

    1- المتواضع صورة حلوة للمسيح..

    فهو إنسان ممتلئ بالنعمة ويرتسم عليه نور وجه الرب..

    قصّة: حدث في مرة أنْ سأل تلاميذ الأنبا باخوميوس معلّمهم أن يحكي لهم عن إحدى الرؤى أو المناظر الإلهية التي يراها.. فأجاب: "إنّ خاطئًا مثلي لا يرى إعلانات سماوية، أمّا إذا أردتم أن تُبصِروا منظرًا إلهيًا، فابحثوا عن إنسان متواضع القلب طاهر، وأفضل من هذا المنظر لا تطلبوا.

    2- المتواضع قوي جدًا..

    إذ هو مُتّكل دائمًا على الله، بعكس المتكبّر الذي يقف وحيدًا بدون نعمة الله، فيصير ضعيفًا مهما كانت إمكانياته، أمّا المتواضع فهو جبار، لأنّه يملك كلّ إمكانيات الله.

    قصّة: أتت الشياطين ذات يوم للقديس أنبا مقار الكبير، وهي تصرخ في وجهه: لقد أتعبتَنا. أنت تصوم ونحن لا نأكل، أنت تسهر ونحن لا ننام، أنت تسكن البراري ونحن أيضًا.. ولكنّك بشيء واحد تغلبنا. حينئذٍ قال القديس مقاريوس: وما هو هذا؟ أجابوه: إنه تواضعك.. الشيء الوحيد الذي به تتفوّق علينا وتغلبنا. فبسط القديس يديه للصلاة فاحترق الشياطين واختفوا.

    3- المتواضع يستريح فيه روح الله ، ويتخذه مسكنًا له..

    قصّة: يحكي لنا تاريخ الكنيسة عن القدّيس زكريا الذي تربّى في البرّيّة مع والده أنبا قاريون، أن رآه في مرة القدّيس موسى الأسود، راكعًا يصلي بجوار البئر وهو ممتلئ من روح الله، فلما اقترب الأنبا موسى سأله: يا أبتاه قُلْ لي ماذا أصنع لأخلص؟ فسجد القديس زكريا عند قدمَيّ الأنبا موسى وقال له: يا أبي أتسألني أنا؟! فأجاب الأنبا موسى: صدّقني يا ابني زكريا إنّي أبصرتُ روح الله حالاً عليك، ولذلك أسألك.. فتناول القدّيس زكريا قلنسوته من على رأسه، ووضعها عند رجليه وداسها، ثم رفعها ووضعها ثانيةً فوق رأسه وقال: إن لم يَصِرْ الراهب هكذا مُنسحِقًا متواضعًا فلن يخلُص..!

    4- المتواضع يفلت من الشياطين، فلا تستطيع أن تقهره..

    الشيطان متكبّر ولا يَقبَل أن ينحني، فعندما نتّضع نحن وننحني، نكون بذلك قد ابتعدنا عن متناول يده..!!

    قصّة: حدث ذات يوم أنّ الأنبا أنطونيوس رأى فخاخ الشيّاطين منصوبة على كلّ الأرض، فتنهّد في قلبه وقال: آه يا رب.. مَن يستطيع أن يفلت من هذه؟! فسمع صوتًا يقول له: المتواضعون يفلتون.

* كيف أقتني الاتضاع؟

    بعد أن اشتقنا أن نصير متواضعين، عندما عرفنا أنّ المتواضع صورة حلوة للمسيح، ويستريح فيه روح الله، وهو قوي جدًّا بالله، ولا تستطيع الشياطين أن تقهره بل يفلت منها بسهولة.. نتحدّث الآن عن بعض التداريب العملية لنكتسب فضيلة الاتضاع..

    1- التدريب على الطاعة..

    فالطاعة هي المدخل الرئيسي للاتضاع، لأنّ فيها يتنازل الإنسان عن رأيه ومشيئته الخاصّة لينفِّذ مشيئة غيره، وفي هذا إنكار للذات يؤدِّي إلى اتضاع النفس.. لذلك فإنّ إنكار الذّات يلزم أن يكون جزءًا من جهادنا الروحي اليومي، حتّى يتحوّل مع الوقت إلى طَبعٍ ثابت في سلوكنا..

    نصيحة الآباء القدّيسين المُختَبِرين لنا هي: أن نهتمّ بالطاعة أكثر من النُسك، لأنّ الطاعة تولّد الاتضاع، أمّا النسك الزائد بدون مُرشِد فقد يقود الإنسان إلى الافتخار والكبرياء.

    الطاعة أيضًا لا تكون فقط للناس، بل هي أولاً تنفيذ وصايا المسيح، وقبول كلامه، وكلّ تدبيراته لحياتنا بشكر، كما يعلّمنا الإنجيل: "ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس" (أع 29:5).

    2- احتمال الإساءات..

    وهذه من أفضل التداريب لاكتساب التواضع.. فقد يسمح الله أحيانًا بأن تُوَجَّه لنا بعض الإساءات أو الإهانات، وعندما ينظر الله لجهادنا في الاحتمال، يمنحنا نعمة الاتضاع الحقيقي.. وبالطبع فإنّ احتمال الإساءات يحتاج قوة كبيرة، يلزمنا أن نطلبها من الله في الصلاة.

    يقول القدّيس مار إسحق السرياني: أنّ الله لا يكفّ عن تذليلنا بشتّى التجارب والأحزان، حتّى نتّضع. ويقول أيضًا: أنّ كلّ أمر نفتخر به يسمح الله بتغييره حتّى نتّضع..!

    ويقول القدّيس باخوميوس أب الشركة: إنّ الأحزان والإهانات هي مكوي يسوع التي يستخدمها لشفائنا من مرض الكبرياء.

    3- حياة الخفاء..

    هذه من أهمّ وأحلى التداريب الروحية.. أن نعمل الخير في الخفاء، لأبينا الذي يَرى في الخفاء، ويودّ أن يُقيم مع كلّ واحد فينا علاقة هادئة في الخفاء.

ينبغي لنا أن نطلب رِضا الله فقط وليس مديح الناس، ومكافأة الله فقط وليس تكريم الناس لنا، هذا الذي بسببه قد يُحرم الإنسان من مكافأته السماوية..!

    من أجل هذا أوصانا ربّنا يسوع المسيح أن نتعلّم العطاء في الخفاء، ونختار المُتَّكَأ الأخير، ونصلّي ونصوم في الخفاء.. لكي يَنظُرنا الله فقط، ويكافئنا على محبّتنا وتواضعنا بأكاليل سمائيّة..