تقدَّموا إليه واستنيروا

    نصلّي هذه الآية الجميلة في الساعة الثالثة.. في المزمور رقم 33، والذي يبدأ بعبارة: "أبارِك الربَّ في كلّ وقت، وفي كلّ حين تسبحته في فمي..".

    كلّنا نعلم أنّ الله هو النور الحقيقي، وهو مصدر كلّ استنارة.. فعندما ننفتح عليه بأذهاننا وقلوبنا، تحدث استنارة أكيدة لكياننا الداخلي.. وهذا ما نطلبه كلّ يوم، ونحن نصلّي صلاة باكر قائلين: "ليُشرِق لنا نور وجهك، وليُضِئ علينا نور عِلمك الإلهي. اجعلنا أن نكون بني النور وبني النهار.. أنِر عقولنا وقلوبنا وأفهامنا يا سيّد الكلّ.. لتُشرِق فينا الحواس المُضيئة، ولا تغطّينا ظُلمة الآلام (المقصود بالآلام: أمراض الخطيّة)".

    أمّا الآية الجميلة "تقدّموا إليه واستنيروا" فهي تحمل الكثير من المعاني الغنيّة، التي من المُفرِح أن نتأمّل في بعضها:

    1- دعوة الله لنا هي دائمًا للتقدُّم إلى الأمام، والنمو، وعدم الاكتفاء بمستوى مُعيَّن.. وهذا يناسِب ويُشبِع الطموح الطبيعي للإنسان لأن يكبر وينمو.. فالحياة الروحيّة هي مسيرة بدأناها بالإيمان وعَهْد المعموديّة، ونتقدَّم فيها بمعونة الروح القدس لننمو في محبّة الله، وفي معرفته، وفي كلّ عمل صالح نشهد به له، كثمرة لعمل روحه فينا..

    2- الدعوة للتقدُّم لله هي دعوة لانتهاز الفرصة المُتاحة لنا الآن.. فأحضان الله مفتوحة لنا، وهو يدعونا للتوبة، ويقول: "مَن يُقبِل إليّ لا أُخرِجه خارجًا" (يو37:6)..!

    3- التقدُّم أيضًا يحتاج إلى جهاد ومُثابرة.. فالحياة الروحيّة هي تجاوُب مع دعوة الله لنا، ليس فقط بالفِكر والإرادة، ولكن ببذل كلّ الجهد كما يقول القديس بطرس الرسول: "وأنتم باذلون كلّ اجتهاد... اجتهدوا أيها الأخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتَيْن، لأنكم إن فعلتم ذلك لن تزلّوا أبدًا" (2بط1).. فبدون الجهاد الروحي الأمين في التبكير للصلاة، وضبط الجسد في الأصوام، والانسكاب في القُدّاسات، واقتطاع وقت ثابت يوميًّا للدراسة في كلمة الله والقراءات الروحيّة، لا يمكن أن يَحدُث التقدُّم في المسيرة الروحيّة، وبالتالي لن نصِل إلى حالة الاستنارة ونتمتّع بها..!

    4- من الواضِح أنّه يوجَد ارتباط بين التقدُّم والاستنارة.. فكلّما تقدّمنا، كلّما استنارَت عقولنا وحواسنا وأرواحنا.. فنبدأ في فهم وإدراك تدابير الله في هذا الكون، وننمو في مستوى الحكمة والإفراز، ونستوعِب بثبات وبدون انزعاج جميع الأحداث التي تمرّ بنا، الحلوة منها والمُرَّة.. ونضبط مسيرتنا بشكل أفضل وأدقّ فتكون أكثر نجاحًا وأوفر ثمرًا.. كما نكون أيضًا سبب بركة لكثيرين، بالقُدوة والمشورة الصّالحة..

    5- الآية أيضًا تؤكِّد لنا أنّ صِحّة الاتجاه ووضوح الهدف هي عناصر هامّة جدًّا في الطريق الروحي.. فالتقدُّم يُحسَب تقدُّمًا عندما تكون حركتنا في اتّجاه الله، وليس في أيّ اتّجاه آخَر.. "تقدّموا إليه (هو).."!

    6- عندما نتقدَّم ونقترب من الله فإنّ نوره يسطَع علينا.. نور وجهه الأبرع جمالاً من بني البشر.. نور محّبته التي تجلَّت بأكثر بهاءً في الصليب.. نور كلمته التي تُعطي الحِكمة للجُهَّال، وتُرشِد التائهين، وتُفَرِّح القلوب، وتُغْنِي النفس من الداخِل..

    وكما اقترب موسى من الله، فاستنار قلبه بالحُبّ ووجهه بالنور، لدرجة أنَ الناس لم يكونوا قادرين على النظر إليه.. هكذا كلّ مَن يتقدَّم باستمرار إلى الله بالوقوف للصلاة في المخدَع وفي القدَّاس، ويقترب يوميًّا بخشوع وانتباه من الكلمة الإلهيّة، ويحرص بانتظام على التناول من الأسرار الإلهيّة المقدَّسة، فإنّ شمعته تستنير، ويصير مصباحُ حياتِه مُضيئًا لكثيرين، حتّى أنّهم يقتربون منه ليستضيئوا بنور المسيح المُشِعّ منه، محاولين أيضًا إشعال شموعهم المُطفأة منه.. فيكمُل فيه اشتياق الربّ: "أنتم نور العالم.." (مت5: 14).

    7- وأخيرًا.. فإنّنا كلّما نتقدَّم في مسيرتنا الروحيّة، ونقترب من النور الحقيقي، فإنّنا ننتبِه أكثر لضعفات ونقائص وشوائب موجودة في حياتنا.. فنُقدِّم عنها توبةً ونكشفها لأب اعترافنا، لنتطهّر منها.. هذه الشوائب لم نكُن نراها ونحن بعيدون عن النور، أمّا عندما نقترب ونستنير فإنّها تظهر لنا أكثر وضوحًا.. وكلّما اقتربنا أكثر ستظهر نقائص أخرى، فنتوب عنها.. وهكذا.

    لذلك، مع التقدُّم والاستنارة تكون التوبة هي رفيقة حياتنا إلى النَّفَس الأخير.. ومعها زيادة الاستنارة بلا انقطاع إلى الأبد.. ليتحقّق فينا قول السيِّد المسيح: "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت13: 43).