القس متياس وديع المصباح المنير

    نحتفل هذا الشهر بمرور 18 سنة على انتقال الأب الحبيب المبارك، والخادم الأمين، والراعي الساهر الباذل، المجاهد بكل قوّة.. القس متياس وديع، كاهن كنيسة القديسة دميانة بالورديان بالإسكندريّة.. الذي غادر عالمنا الفاني بعد عمر قصير (42 عامًا)، مُكَلَّلاً بالآلام، مُعَطَّرًا بالمُرّ واللبان وبكل أذِرَّة التاجر (نش6:3)..

    هذا الكاهن العملاق، كان مصباحًا متوهِّجًا في جيله، بخدمة ناريَّة على الرغم من قِصَر مدّتها، وبأمانة وتفانٍ نادر المثال، وبحبٍ وإخلاصٍ بالغ الروعة..

    أتبارك في هذه السطور القليلة بعرض بعض جوانب بسيطة من شخصيّته الغنيّة:

    1- بدأ خدمته الكهنوتيّة في منطقة الورديان المُزدحمة بالمسيحيّين في عام 1995م، فنهض بالخدمة بعد سنوات من الفتور والانشقاقات.. جَمَع شمل الرعيَّة، وواجه المشاكل المُزمِنة بحكمة وحزمٍ وحبّ.. فصارت الكنيسة خليّة نحل، تعمل بها كلّ الطاقات..

    2- اهتمّ بالتعليم والبحث والدراسة.. فأنشأ بالكنيسة "المدرسة المرقسيّة لإعداد الخُدّام".. والتي قامت بدور هام في تجهيز وتخريج خُدّام وخادمات أكفاء لخدمة المنطقة.. وكان يشرِّفني بالتدريس فيها -مع العديد من الآباء الكهنة- على مدار ثماني سنوات، أحيانًا بمنهج الألحان أو الطقوس أو العقيدة أو دراسة الكتاب المقدّس.. وكان يهتمّ بأن تكون الدراسة عميقة والمناهج وافية، وعلى مستوى عِلمي وروحي رفيع..

    3- قام بعمل جبّار في إعادة تخطيط وهدم وبناء الكنيسة بالكامل، وأشرف على تنفيذها.. فتضاعفت المساحة وصارت الكنيسة مَفخرة معماريّة وفنيّة، هذا غير التنظيم الداخلي الدّقيق لكل مرافقها، فكان يتابع بنفسه كلّ الأمور، ويختار الشخص المناسب للمكان المناسب..

    4- اهتمّ بإصدار مجلّة قويّة لخدمة الشمامسة على مستوى الإسكندريّة، باسم "ذياكون". وكانت تصدر كلّ شهرين بانتظام على مدى خمس سنوات، وكان يحرِّرها بنفسه.. فكانت بالحقيقة مجلّة عميقة وغنيّة جدًّا في مادتها.. وتتنوَّع أبوابها بين الدراسات الطقسيّة والتاريخيّة والعقيديّة والروحيّة، والخبرات الرعويّة والقوانين الكنسيّة، مع أحدث توصيات المجمَع المقدّس بخصوص الأمور الطقسيّة.. وأيضًا بعض مجاملات المحبّة في تذكار رسامة ونياحة الآباء الكهنة الأفاضل والإخوة الشمامسة المباركين..

    5- كان في أغلبيّة سنوات كهنوته هو المُشرِف على خدمة السجون.. وقام فيها بمجهود هائل للخدمة الروحيّة، وتقبُّل الاعترافات، وخدمة القدَّاسات، وتوفير ما يمكن من احتياجات للمسجونين وأُسَرِهم... وهذه الخدمة وحدها ربما تحتاج لكاهن متفرِّغ تمامًا لأداء مهامها الصّعبة..!

    6- كان له دوره الهام في مساعدة قدس الأب الحبيب المتنيّح القمص دوماديوس حنا في العمل الإداري لخدمة لجنة البِرّ، التي تهتمّ باحتياجات إخوة الربّ على مستوى اسكندريّة..

    7- أسّس في عام 2003م مكانًا مجهّزًا لرعاية الأطفال ذوي الظروف الاجتماعية الصعبة، باسم "أسرة الملاك رافائيل لتربية الأطفال" وفيه خادمة مكرّسة مقيمة بالمكان، مع لجنة من الخدام المتخصّصين الذين كانوا يترددون على الأطفال لخدمتهم.

    8- كان جادًّا جِدًا مع نفسه، متشدِّدًا لدرجة القسوة أحيانًا.. فكان نموذجًا رفيعًا للانضباط وسط مخدوميه، وكان قدوة في حمل الصليب بسيرته قبل كلماته.. واضعًا أمام عينيه وصيّة الإنجيل: "أقمع جسدي وأستعبده، حتى بعدما كرزتُ للآخَرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1كو27:9)..

    وأخيرًا.. لقد انطبق عليه كلام السيّد المسيح عن يوحنّا المعمدان عندما قال مُعاتِبًا الفرّيسيين: "كان هو السّراج الموقَد المنير، وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة" (يو35:5).. فقد تشابه أبونا متياس مع القديس يوحنا المعمدان في قِصَر مدّته، وناريّة خدمته، وأمانته وجدّيّته.. فكان مصباحًا مُضِيئًا في جيلنا..!

    طوبى لمَن يحفظ مصباحه مضيئًا بالمحبّة والوداعة والطهارة، والسلوك الروحي مثله.. بركة صلواته تكون معنا. آمين.