ليسوا من العالم

    عندما يفارقنا أحد الأحبّاء بشكل مفاجئ، تحدث صدمة للكثيرين، ويبدأون في تساؤلات لا تنتهي، مثل:

   - لماذا يفارقنا الأبرار المُحبّون، بينما يستمرّ الأشرار على هذه الأرض ينشرون الفساد والأحقاد؟!

   - كيف نستطيع أن نستوعِب أن يُغادر عالمنا مَن كانوا يَحمِلون مشاعل النور والحكمة والسلام والفرح للآخَرين، ويُترَك لنا الذين يُسَمّمون الأجواء، ويعكّرون المياة الصافية، ويزرعون الشِقاقات والمنازعات الغبيّة؟!

   - ما هي حكمة الله من انتقال بعض الخُدّام الأمناء، وهم في ذروة عطائهم وتوهّجهم.. في حين أنّ آخرين غير مثمرين يتركهم الله يعطّلون نموّ الكنيسة، ويتسبّبون في متاعب وعثرات لا حصر لها؟!

    الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليست بالأمر السهل، ولكنّي سأحاول بنعمة المسيح مناقشتها في نقاطٍ محدّدة بقدر الإمكان:

    أوّلاً: عندما اختارنا الله، ووهبنا نعمّة البنوّة له، في ابنه الوحيد والحبيب يسوع المسيح.. قد تغيّر وضعُنا تمامًا، وصرنا "أهل بيت الله" (أف2: 19)، و"شركاء الطبيعة الإلهيّة" (2بط1: 4).. وصارت جنسيّتنا وانتماؤنا هو للملكوت السماوي (في3: 20)، بعد أن وُلِدنا ميلادًا جديدًا من الله (يو1: 13)..

   يؤكِّد هذه الحقيقة، حديث ربّنا يسوع المسيح المُمتِع مع الآب، كما جاء في إنجيل يوحنّا؛ أنّنا لم نَعُد من هذا العالم، بل قد صرنا غرباء عنه، حتّى وإن كان لا يزال لنا رسالة معيّنة فيه.. فيخاطب الابنُ الآبَ من أجلنا قائلاً:

    "أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلاَمَكَ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ،

    لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ،

    لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ.

    قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلَامُكَ هُوَ حَقٌّ" (يو17: 14-17)

    نلاحظ أنّه يُكرِّر عبارة "لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ"، ليؤكِّد حقيقة غربتنا عن هذا العالم، بعد انتمائنا لعضويّة جسده بالمعموديّة.. ولكن لا ننسى أيضًا تأكيده بأنّنا سنكون فيه محفوظين من الشرّير، ومقدّسين بالثبات في وصاياه، فعندما نتغذّى بكلامه فإنّنا نثبت في الحقّ، والحقّ يحرّرنا من أيّة رباطات يحاول هذا العالم الشرّير أن يربطنا بها..!

    فإذا كُنّا لسنا من هذا العالم، فمِن الطبيعي أنّه سيأتي اليوم الذي فيه ننطلق من غربتنا هذه، إلى بيتنا السماوي، فنستريح من أتعابنا، وأعمالنا تتبعنا (رؤ14: 13).

    ثانيًا: لا ينبغي أن نُسَلّم أنفسنا للحزن، مهما كان الفُراق المؤقَّت موجِعًا، إذ نؤمن أنّ الله دائمًا هو صانع الخيرات، ويحوّل كلّ الأمور للخير (رو8: 28).. وهو يعرف الأزمنة والأوقات، فهي كلّها في سلطانه (أع1: 7)، لذلك علينا فقط أن نصلّي ملتمسين تعزياته السماويّة، في تسليم كامل لمشيئته..

    ثالثًا: فترة الغُربة التي نقضيها على الأرض، هي فرصة ثمينة لملء مصابيحنا بالزيت.. زيت المحبّة والإيمان، زيت المتاجرة بالوزنات لمجد اسم الله، زيت الامتلاء بالنعمة والسلوك بحسب الروح.. وعندما تمتلئ المصابيح تمامًا بالزيت، فقد يرى الله أنّ هذا هو الوقت المناسب لمغادرتنا هذا العالم الفاني.. فننطلق إليه لنُزَفّ له مع العذارى الحكيمات.

    رابعًا: للأسف هناك البعض ليس فقط لا يملأون مصابيحهم بزيت النعمة، بل يدّخرون لأنفسهم غضبًا في يوم الغضب (رو2: 5)، بإثارة العداوات والخصومات والتشهير والتشويش وإدانة الآخَرين.. وقد يَظهرون بثياب المعلّمين الحملان، وهم في الداخل ذئاب خاطفة (مت7: 15).. ويستهينون بطول أناة الله عليهم، التي هي لأجل توبتهم.. مثل هؤلاء يوبّخهم الروح القدس بشدّة على فم القدّيس بولس الرسول، لعلّهم يستفيقوا ويبتعدوا عن هوّة الهلاك، فيقول:

    "أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ..

    نحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ دَيْنُونَةَ اللهِ هِيَ حَسَبُ الْحَقِّ..

    أَفَتَظُنُّ هذَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تَدِينُ.. أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ؟

    أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟

    وَلكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ،

    الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ؛ أَمَّا الَّذِينَ بِصَبْرٍ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَطْلُبُونَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْبَقَاءَ، فَبِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.

    وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّحَزُّبِ، وَلاَ يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ بَلْ يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ، فَسَخَطٌ وَغَضَبٌ، شِدَّةٌ وَضِيقٌ، عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ الشَّرَّ..

    وَمَجْدٌ وَكَرَامَةٌ وَسَلاَمٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ الصَّلاَحَ..

    لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ." (رو2: 1-11).

    لذلك نحن مطمئنّون أنّ الله في محبّته يتيح فرصة التوبة للجميع، فلا ينبغي أن نتذمّر عليه عندما يُطيل أناته على أغصان أو أشجار غير مثمرة، بل نصلّي لأجل خلاص تلك النفوس، وعودتها لدائرة حُبّ الله.. الصلاة ستفيدهم وتفيدنا أيضًا..!

    خامسًا: فترة حياتنا على الأرض هي فترة مؤقّتة وقصيرة جدًّا.. والمطلوب فقط من كلّ واحد فينا أن يخدم جيله بمشورة الله، كما قيل عن داود النبيّ (أع13: 36).. وهذا يعني أن يشهد الإنسان للمسيح بالمحبّة والقداسة، ويتاجر بالوزنات التي استلمها منه لمجد اسمه، ويتمّم مشيئة الله في حياته، فيصير بركة للجيل الذي يعيش فيه.. بل أحيانًا يكون بركة لأجيال كثيرة، إذا كان من المتاجرين بكلمة الله الحيّة..!

    فالذي يرتبط بكلمة الله، ليس فقط لا يموت، بل تصير سيرته عابرة للأجيال، وإنتاجه الروحي والفكري حيًّا لا يغلبه الموت، ويظلّ مصدرَ غذاءٍ وعَزاءٍ لكثيرين عبر الزمان والمكان.

    سادسًا: توجَد فِكرة أشار لها الكتاب المقدّس أكثر من مرّة، أنّ بعض الأبرار ينتقلون سريعًا إلى السماء، لأنّ العالم لم يَعُد مُستحِقًا لهم (عب11: 38).. فقد "بَادَ الصِّدِّيقُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ ذلِكَ فِي قَلْبِهِ. وَرِجَالُ الإِحْسَانِ يُضَمُّونَ، وَلَيْسَ مَنْ يَفْطَنُ بِأَنَّهُ مِنْ وَجْهِ الشَّرِّ يُضَمُّ الصِّدِّيقُ" (إش57: 1).

     + أكتب هذه الكلمات، بمناسبة الانتقال المُفاجئ للصديق الحبيب والخادم الأمين الدكتور سعيد حكيم يعقوب، الذي كرّس حياته لخدمة المسيح منذ بكور شبابه، وتخصّص في دراسة آباء الكنيسة، وقد حصل على درجة الدكتوراة من جامعة تسالونيكي باليونان، وترجم العشرات من تفاسير آباء الكنيسة من أصولها اليونانيّة إلى لغتنا العربيّة، فأثرى الكنيسة بروح وفكر الآباء..

    كان محبوبًا من الجميع، حلو اللسان والمَعشَر، متواضعًا ودودًا سلاميًّا.. تَلْمَذَ كثيرين وشجّعهم، بروح المعلّم المترفّق، والأب الحاني الوديع.. الحقيقة أنّه لا يمكن حصر فضائله في مقال ولا حتّى في كتاب..!

    هو نموذج رائع لأبناء النور ذوي المصابيح الممتلئة بالزيت.. هؤلاء الذين أضاءوا الطريق في الأرض لأجيال قادمة، والآن يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم (مت13: 43).

    الربّ قادر أن ينيّح نفسه الطاهرة في فردوس النعيم، ويعزّينا جميعًا في انتقاله.. يعزي أسرته وكلّ محبّيه.. وكلّ أسرة المركز الأُرثوذكسي للدراسات الآبائيّة، وكلّ أسرة الكليّة الإكليريكيّة بالقاهرة.. وليعوّض الله الكنيسة عنه خيرًا، بصلوات أبينا الحبيب قداسة البابا تواضروس الثاني، الذي كان يحبّه كثيرًا، ويُقدِّر عِلمه، حتّى أنّه اختاره ليكون وكيلاً للكلّية الإكليريكيّة للدراسات العليا.

    أختم المقال بهذه الكلمات المعزّيّة من فم ربّ المجد يسوع:

    "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.

    مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.

    إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي.

    وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ." (يو12: 24-26)