بمناسبة مرورعامين على نياحته - ذكريات مع القمّص لوقا سيداروس

    مرّت الأيّام بسرعة لا تُصدَّق، أو هكذا أشعرُ.. ويأتي التذكار الثاني لانطلاق أبي الحبيب المبارك القمّص لوقا سيداروس إلى الأخدار السمائيّة، مُعَطَّرًا بالمُرّ والآلام، مُشِعًّا بالفرح والرجاء، صامدًا في سلام إلى النفس الأخير..

    أودّ في هذه المناسبة أن أبدأ بسرد جانب بسيط من ذكرياتي القديمة معه، التي هي محفورة في فكري وقلبي، منذ بكور شبابي، وكان لها تأثير كبير على حياتي.. أسرد البعض الآن، ثمّ أتابع كتابة ما يمكن نشره من هذه الذكريات، في مناسباتٍ قادمة، إن أحبّت نعمة ربّنا وعشنا..

    + أوّل مرّة أرى فيها أبونا لوقا، كانت في فناء كنيسة مارجرجس سبورتنج، مساء السبت 14 يوليو 1979م، وقد التفّ حوله الشعب، يسلّمون عليه ويقبّلون يده، بعد عودته من خدمته في أمريكا، والتي استمرّت حوالي سنتين.. وبعد أن سلّم أبونا على المئات من الشعب، صعد إلى الكنيسة لصلاة العشيّة، وكانت ليلة عيد القدّيس الأنبا بيشوي حبيب مخلّصنا الصالح.

    + كان أبونا تادرس يعقوب في ذلك الوقت يقوم بتفسير سفر الرؤيا أسبوعيًّا في عشيّة السبت، وكنتُ أقوم بتسجيل هذه العظات.. وفي تلك الليلة أعطَى العظة لقدس أبونا لوقا، فتحدّث عن القدّيس الأنبا بيشوي، وقال أنّ القدّيسين ليسوا من طبيعة مختلفة عنّا، بل هم فقط أحبّوا نفس الإنجيل الذي نقرأ فيه كلّنا، والتزموا به وعاشوا حسب وصاياه.. وقال أيضًا أنّنا إذا كُنّا نسمع أنّ الأنبا بيشوي كان يقضي الليل كلّه في الصلاة، ويربط شعره في السقف لكي لا يغالبه النوم، فهو بالتأكيد لم يبدأ هكذا.. بل بدأ بالمواظبة على صلاة صغيرة، كبرَتْ مع الوقت.. لذلك فيمكن لنا أن نبدأ بربع ساعة، وسيكون المواظبة عليها سبب بركة كبيرة لنا..!

    + في تلك الفترة، قام أبونا تادرس وأبونا لوقا بتوزيع عظات العشيّات بالتبادل عليهما، سواء عشيّة السبت أو عشيّة الثلاثاء، وأيضًا اجتماعات الشبّان والشابات يوميّ الخميس والجمعة على التوالي.. وكانت موضوعات العشيّات تتنوّع بين تفسير الإنجيل، وتاريخ الكنيسة، مع الموضوعات الروحيّة والإيمانيّة.. كما قاما مع باقي الآباء بتوزيع مسؤوليّة خدمة مدارس الأحد عليهم، بحيث كلّ سنة يُشرف أب منهم على خدمة معيّنة، ابتدائي أو إعدادي أو ثانوي، ويقومون في السنة التالية بالتبديل..

    + حضر أبونا لوقا معنا لأوّل مرّة بعد عودته من أمريكا اجتماع خُدّام ابتدائي، وهو عادةً يكون يوم الأحد بعد الخدمة في حدود السادسة مساءً.. وسأل عن أسمائنا فردًا فردًا، وأين نسكن..؟ ثمّ وجّه لنا سؤالاً: ما هي الخدمة في نظرَك؟ ولماذا تخدم؟ وسمع إجابات متنوّعة، وقام بالتعليق عليها.. فكان اجتماعًا شيّقًا ومثمرًا، إذ أكّد على مفاهيم جميلة جدًّا في الخدمة..

    + تلك الفترة التي استمرّت حوالي سنتين، حتّى صاعقة السجن في سبتمبر 1981م، كانت فترة غنيّة جدًّا في الخدمة بالكنيسة، فقد كثرت فيها الأيّام الروحيّة للخُدّام، وكانت تبدأ بالقدّاس الإلهي، ثم عدّة كلمات روحيّة ومناقشات.. وأتذكّر أنّ أحد الأيّام الروحيّة كان موضوعه عن "الشيخوخة الروحيّة"، ويوم آخَر كان موضوعه "اقتدار الصلاة".. ودائمًا كان أبونا لوقا يبدأ البرنامج بكلمة روحيّة قويّة، وأحيانًا يغادر بعدها، ويتبعه أبونا تادرس بكلمة ثانيّة، ثمّ تبدأ الأسئلة والحوار بين الآباء والخدّام والخادمات..

    + كان اجتماع الشبّان كلّ يوم الخميس يمتلئ عن آخره، وكانت كلمات أبينا لوقا فيه قويّة جدًّا.. وبالذّات في تلك الفترة التي كانت عصيبة على الكنيسة، في السنتين الأخيرتين من حُكم أنور السادات.. وأتذكّر أنّ أبونا لوقا كرّر الكلام عن الثلاثة فتية في آتون النار مرّتين في خلال شهور قليلة، فكان يقرأ الأصحاح الثالث من سفر دانيال بكامله، ويعلّق على كلماته بتأمّلات روحيّة عميقة جدًّا، تسند إيماننا كشُبّان، فكُنّا نخرج من الكنيسة وقد شبعنا بالنعمة وامتلأنا بالقوّة.. وكان أيضًا يعطِي الفرصة للتعليقات والأسئلة الشفويّة في نهاية الكلمة.. وقد كانت إجاباته قويّة ومُقنِعة، ولا تخلو من روح الدعابة أيضًا، إذ كان لمّاحًا ويتميّز بسرعة البديهة، والمهارة في انتقاء الألفاظ.

    + تميّزت عظات أبينا لوقا أيضًا بروح التشجيع، والرجاء في المسيح.. فكان يتحدّث كثيرًا عن ينابيع الروح الداخليّة، التي إن أهملناها بالكسل تتوقّف عن التدفُّق، فتتحوّل حياتنا إلى صحراء مُقفِرة.. ولكن إن عُدنا فنبشنا الآبار الداخلية، بالصلاة والتوبة والتودُّد للروح القدس في داخلنا، فإنّ هذه الينابيع الإلهيّة تعاود التدفُّق في داخلنا، فتروينا وتعزّينا، وتملأ حياتنا بالثمار..

    + كانت كلمات أبينا الحبيب أيضًا تركِّز على أهمّيّة التمتُّع بالعلاقة الشخصيّة مع المسيح، وأهمّيّة صلاة المخدع والصمود فيها، إذ من خلالها نتذوّق محبّة الله وننمو فيها.. وكان يعلّمنا أنّ الصلاة هي العمود الرئيسي في الحياة الروحيّة، وبدونه لن تقوم للخادم قائمة، مهما كان يبدو نشيطًا وكثير الحركة والكلام..!

    + أمّا عن علاقتنا بالإنجيل، فكان أبونا لوقا نموذجًا أمامنا للإنسان الشبعان بالإنجيل، وبالذات العهد القديم، فكان باستمرار يُخرِج لنا من كنزه جددًا وعتقاء.. والآيات الكثيرة التي كان يحفظها عن ظهر قلب كانت تفيض من فمه بسلاسة وجمال، فتُعطي دسمًا للموضوعات التي يتكلّم فيها.. وكثيرًا ما كان يتّخذ فقرات أو أحداث من العهد القديم كمدخل لعظاته.. ولازلت أتذكّر بعض العظات التي ألقاها بهذا الشكل في تلك الفترة..

    + في أواخر أغسطس 1981م، كُنّا في خلوة للشبّان ببيت مارمرقس بأبي تلات، الذي كان وقتها تحت التشطيب، وحضر إلينا أبونا لوقا، وحدّثنا عن حياة الطهارة، وناقش معنا الكثير من الأسئلة.. ثمّ قضى معنا عدّة ساعات يتسامر ويلعب معنا في بساطة وفرح..

    + جاءت أحداث السجن في أوائل سبتمبر 1981م، لتقطع تلك الفترة الجميلة، التي تربّينا وتغذّينا فيها على الدّسَم الروحي الذي كان أبونا لوقا وأبونا تادرس يروياننا به.. وبعد الخروج من السجن في مارس 1982م، بدأت مرحلة جديدة في علاقتي بأبينا لوقا.. وبالطبع تلك الفترة ستحتاج إلى حديث آخر، في وقت مقبّل بمشيئة الله.

    بركة صلوات أبينا الحبيب المتنيّح القمّص لوقا سيداروس تكون معنا. آمين.