بين أحلام الأرشيدياكون حبيب جرجس وأحلام المطران جورج خضر

    احتفلنا منذ يومين بالعيد الثاني والسبعين لنياحة القدّيس حبيب جرجس.. وتحضرني في هذه المناسبة قصّة حكاها لي أحد الخُدّام.

    في منتصف السبعينيّات ذهب هذا الخادم إلى قدس الأب القدّيس القمّص بيشوي كامل، حاملاً معه بعض الأفكار لتطوير الخدمة.. وبعد أن استمع له أبونا بيشوي بروح الأبوّة والتشجيع، قال له: هذه أفكار ممتازة، ولكنّها سابقة لآوانها، فإذا نفّذناها الآن فربّما تجد بعض المقاومة، ولن يستوعبها الناس.. لكنّي أثق أنّها ستجد فرصتها في المستقبل القريب..

    واستطرد أبونا بيشوي قائلاً للخادم: انظر إلى الكنيسة الآن، ومَن هم القيادات فيها؟ أليسوا كلّهم أولاد حبيب جرجس؛ مثل البابا شنودة وأنبا غريغوريوس وأنبا يوأنّس أسقف الغربيّة..؟! فقد تنيّح حبيب جرجس منذ أكثر من عشرين عامًا، بعد أن زرع البذار وتلمَذَ كثيرين، ومن تلاميذه خرج للكنيسة الآن قيادات عظيمة.. هكذا يمكن أن تكون الأفكار التي تعرضها الآن، قد يعتبرها الناس غريبة وغير ممكنة، ولكنّها بالتأكيد ستأتي بثمار وخير للكنيسة في السنوات القادمة..!

    في عام 1943م كتب القديس الأرشيدياكون حبيب جرجس رؤيته المتكاملة لنهضة الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، وكان ذلك بعد نياحة البابا يوأنّس التاسع عشر في يونيو عام 1942م وقبل انتخاب البابا مكاريوس الثالث في فبراير 1944م. كتب خطّة متكاملة للإصلاح ليضعها أمام البطريرك القادم، في كتاب من القطع المتوسّط في حوالي 208 صفحة بعنوان: "الوسائل العمليّة للإصلاحات القبطيّة - آمال وأحلام يمكن تحقيقها في عشرة أعوام" وتضمّن هذا الكتاب خطَطًا تفصيليّة للنهوض بكافة قطاعات الكنيسة، وأحلامًا جميلة كانت تدور بذهن ذلك الشيخ الوقور، الذي كان قد تجاوز السابعة والستّين من عمره، بخصوص كنيسته المحبوبة التي أفنى عمره في خدمتها، ولم يذُق بعد ثمارَ تعبِهِ فيها..

    تنيّح القدّيس حبيب جرجس في أغسطس عام 1951م، ولم تكُن أحلامه قد رأت النور بعد، ولكنّ بذارَ أفكارِه لم تَمُتْ.. فبعد نياحته بعشرين عامًا اختار الله واحدًا من تلاميذه ليكون بابا الإسكندريّة ويجلس على عرش مارمرقس الرسول، وهو مثلّث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث.. وبدأت أفكار حبيب جرجس التي زرعها في قلوب تلاميذه تدخل حيِّز التنفيذ بشكل كبير في كنيسة الإسكندريّة..

    كان القديس حبيب جرجس مُخلِصًا جدًّا في تخطيطه للنهوض بالكنيسة في ذلك الكتاب، ولم يجامل أحدًا في كلماته، بل فقط كان مهمومًا ببنيان الكنيسة ونموّها ومستقبلها.. ولذلك كانت كلماته نورًا أضاء لكلّ الأجيال، ولا يزال يضيء لنا؛ نحن الذين دخلنا على تعبه وتعب تلاميذه..

    من جهةٍ أخرى، في الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة (الروم الأرثوذكس)، كان الحال متشابهًا في منتصف القرن الماضي، فالكنيسة في سوريا ولبنان كانت تغطّ في نوم عميق، حتّى بدأت "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة" تظهر إلى الوجود في عام 1942م، بقيادة الشاب "جورج خضر".. الذي بدأ يكتب في مجلّة "النور" منذ بداية الخمسينيّات بعض مقالات تناول فيها رؤيته لنهضة كنيسته بكلّ مرافقها، وظلّ يكتب بعد رسامته كاهنًا في عام 1954م.. وصدرت هذه المقالات في كتاب تحت عنوان "أنطاكية الجديدة" عام 1969م، أي قبل رسامته مطرانًا لجبل لبنان بعامٍ واحد.

    الاختلاف هنا بين النموذجين القبطي والأنطاكي، أنّ المطران جورج خضر رأى في حياته المديدة (1923-   ) نهضة كنيسته، وكيف أنّ رؤيته وأحلامه قد تحقّق معظمها بشكل كبير، في حين أنّ الأرشيدياكون حبيب جرجس زرع البذار وسافر إلى السماء، وقد أتت الثمار بعد عشرات السنوات.

    نعود إلى واقع كنيستنا القبطيّة المحبوبة، لنؤكِّد أنّها في السنوات الستّين الأخيرة قد شهدت نهضة شاملة، روحيّة ورعويّة ورهبانيّة وتعليميّة ومعماريّة، وتنظيميّة أيضًا.. فقد عمل الله أعمالاً هائلة ومجيدة على يدي قداسة البابا كيرلس السادس وقداسة البابا شنودة الثالث وقداسة البابا تواضروس الثاني، بشكل واضح للجميع.. ولكن يظلّ السؤال قائمًا:

    هل توقّفَت التحديات؟ وهل وصلنا للكمال؟ هل لا يوجَد في الإمكان أفضل مِمّا هو كائن؟!

    الواقع أنّه لا يزال أمامنا الكثير لنعمله من أجل الارتقاء بأنظمة الكنيسة ومواجهة التحديات القائمة والمستقبليّة أيضًا.. لأنّ الإصلاح عمليّة مستمرّة متجدِّدة لا ينبغي أن تتوقّف عند زمن، أو على رؤية شخص واحد في وقتِ ما.. 

    صحيح أنّ الكنيسة القبطيّة تنمو بشكل ممتاز، داخل وخارج مصر، وقداسة البابا تواضروس وجميع الآباء يبذلون جهدًا هائلاً في الرعاية والترتيب والتعليم، والإنجازات التي تحقّقت حتّى الآن يصعُب حصرها.. ولكنّي أعتقد أنّ هناك احتياج إلى بثّ روح جديدة في الأنظمة الحالية للكنيسة، من أجل تجديد شبابها، ومضاعفة ثمارها..

    كيف يمكن ذلك؟ وما هي الوسائل المطلوبة؟!

    هذا ما سجّلتُه بشكل مختصر في كتاب "كنيسة الإسكندريّة إشراقة متجدّدة"، منذ أكثر من أربع سنوات، وبالتحديد في فبراير 2019م، وقدّمته للرئاسة الكنسيّة. ولم أُرِد أن أنشره، إذ أنّني لا أهدِف إلى إحراجَ أحدٍ ولا الضغط على أحدٍ.. واثقًا أنّ الله سيرشد للنشر في الوقت المناسب.

    في هذا الكتاب أعرِض رؤية مستقبليّة ومقترحات محدَّدة لاستكمال نهضة الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة الشاملة، في عشرة فصول، وبالتحديد هي أفكار لتطوير وتنميّة الأداء الكنسي على المستوى الرعوي والإداري.. مُصلّيًا أن يستخدمها الروح القدس من أجل إيجاد حلول جذريّة لكثير من المشاكل الحالية التي تواجهنا، ومن أجل تمجيد اسم الله القدّوس، ومن أجل أن تصير الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة منارةً وتسبيحةً في كلّ الأرض.. كما تقول نبوّة إشعياء الرائعة: "مِنْ أَجْلِ صِهْيَوْنَ لاَ أَسْكُتُ، وَمِنْ أَجْلِ أُورُشَلِيمَ لاَ أَهْدَأُ، حَتَّى يَخْرُجَ بِرُّهَا كَضِيَاءٍ وَخَلاَصُهَا كَمِصْبَاحٍ يَتَّقِدُ.. عَلَى أَسْوَارِكِ يَا أُورُشَلِيمُ أَقَمْتُ حُرَّاسًا لاَ يَسْكُتُونَ كُلَّ النَّهَارِ وَكُلَّ اللَّيْلِ عَلَى الدَّوَامِ. يَا ذَاكِرِي الرَّبِّ لاَ تَسْكُتُوا، وَلاَ تَدَعُوهُ يَسْكُتُ، حَتَّى يُثَبِّتَ وَيَجْعَلَ أُورُشَلِيمَ تَسْبِيحَةً فِي الأَرْضِ." (إش62: 1-7).

* الصور المرفقة: صورة للقدّيس الأرشيدياكون حبيب جرجس مع البابا كيرلّس الخامس تعود لسنة 1918م. وصورة للمطران جورج خضر، التقطتُها بنفسي في يناير 1995م، أثناء زيارته لكنيسة مارجرجس سبورتنج.