بمناسبة احتفالنا بعيد التجلّي - رؤية المسيح متجلّيًا

    حادثة التجلّي من الأحداث المهمّة التي وقعت أثناء حياة الربّ يسوع بالجسد على الأرض، وجاءت في أواخر فترات خدمته، وقُبَيل رحلته الأخيرة إلى أورشليم، لتقديم نفسه ذبيحة من أجلنا على الصليب..

    نلاحظ أوّلاً أنّ المسيح تنبَّأ بحدوث التجلّي قبل حدوثه بحوالي أسبوع، عندما قال أنّ قومًا من القيام ههنا سوف لا يرون الموت، حتّى يروا ملكوت الله (مت16: 28، مر9: 1، لو9: 27). وهنا يَصِف ما سيراه هؤلاء القوم بأنّه "ابن الإنسان آتيًا في ملكوته"، أو أنّ "ملكوت الله آتيًا بقوّة"، أي أنّهم سيرون لمحة من مجد الملكوت العظيم.. المسيح المُمجَّد في وسط قدّيسيه المُمَجَّدين.. فقد ظهر مع الربّ يسوع موسى وإيليّا بمجدٍ أيضًا..!

    نحن هنا أمام وضعين، الأول أن نرى التجلّي ونفرح به، والثاني أن نتجلّى ونتمتع بالمجد مع المسيح، ونظلّ معه إلى الأبد.

    الوضع الأوّل يحدُث أثناء حياتنا على الأرض، والوضع الثاني يتمّ بعد انتقالنا إلى السماء ومجيء المسيح الثاني..

    الوضع الأوّل، وهو رؤية التجلّي والفرح به، يَحدُث في حياتنا الأرضيّة لمدّة دقائق قليلة، وعلى فترات متباعدة.. أمّا الوضع الثاني فهو دائم إلى الأبد.

    الوضع الأوّل لا يتمتّع به الجميع مع الأسف.. فهو يحتاج لانفراد مع المسيح، ويلزم له الصعود معه إلى جبل الصلاة، أي الجهاد في مخدع الصلاة.. ولاشك أنّ التجلّي في هذا الوضع يزيد من شوق الإنسان للوضع الثاني، أي مجد الحياة السماويّة، ويملأ القلب بتعزية تسنده في مواجهة مصاعب الحياة الأرضيّة وضيقاتها الكثيرة، لذلك فإنّ الله يعطيه من آن لآخَر لكلّ من يلجأ له بالصلاة والتضرّع، كقول المرنّم: "عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذِّذ نفسي" (مز94: 19).

    أيضًا رؤية المسيح متجلّيًا، تُمَثّلها زيارات النعمة التي يعزّينا بها الله أثناء صلوات القدّاس أو قراءة الكلمة الإلهيّة أو صلاة المزامير في المخدع، وأحيانًا عند الترنيم والتسبيح أو سماع عظة أو لقاء شخص مملوء بالنعمة.. وهي في العموم مجرّد لحظات وسط حياتنا الأرضيّة.. فمادُمنا في العالم، لن تكون حياتنا كلّها تجلّيات أو تعزيات.. ولكن لابد من حمل الصليب، والمتاجرة بوزناتنا ومسئولياتنا حتّى ندخل إلى المجد.. فالتجلّي على الأرض هو فقط إطلالة سريعة من آن لآخَر على الملكوت..!

    أما عن الوضع الثاني الذي نتمجّد فيه مع المسيح إلى الأبد، فيلزمه الآتي:

   1- الثبات في المسيح من الآن، كقول الروح القدس على فم القدّيس بولس الرسول، وهو يشرح الموت والقيامة مع المسيح في المعموديّة: "لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ. مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ" (كو3: 3-4).

   2- كأبناء لله، وكأعضاء في جسد المسيح المتألّم والمُمَجَّد، فمن المهمّ أن نقبَل أن ننال مع الميراث نصيبًا من آلامه، لكي ننال نصيبًا من مجده أيضًا..

  "فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ" (رو8: 17)،

  "خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا" (2كو5: 17).

   3- أن نرفض مجد العالم وكرامته بكلّ صورها، ونطلب فقط مجد الله.. أمّا الذين أحبّوا مجد الناس أكثر من مجد الله (يو12: 43)، فقد استوفوا خيراتهم على الأرض، عن طريق المديح والألقاب والتنعُّم بالغِنى والسلطة.. فبعد موتهم يُدفَنون ويغيب عنهم المجد إلى الأبد.

   4- تثبيت أنظارنا باستمرار على المسيح، الذي أحبّنا إلى المنتهى، وأعدّ لنا ملكوتًا مُفرِحًا ومجيدًا، فننمو في محبّته ومعرفته، ونرتقي من مجدٍ إلى مجد بعمل الروح القدس فينا، كما يقول القدّيس بولس الرسول عن خبرة شخصيّة: "وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ" (2كو3: 18).

    ما أحلى أن نختم كلامنا بما يقوله الروح على فم القدّيس يوحنا الحبيب:

    "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ (المسيح في مجيئه الثاني المملوء مجدًا) نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ" (1يو3: 2).