من كنوز القديس كيرلس عمود الدين (59)

                    التلمذة للمسيح

    بينما كانت جموع كثيرة تسير مع السيّد المسيح، التفت وقال لهم أنّه لا يقدر أحد أن يكون له تلميذًا إن كان لا يقطع كلّ الروابط العاطفيّة، ويَقبل حمْل الصليب، ويترك جميع أمواله (لو14: 25-35).. ويُعَلِّق القدّيس كيرلّس الكبير على هذا الحديث الهام، بكلمات جميلة، فيقول:

    + مخلّص الكلّ.. يبيِّن بكلّ وضوح لكلّ مَن يتبعونه، طريق الشجاعة الروحيّة: إنّه بالتقدُّم بقوّة.. وبواسطة اجتهاد شديد.. يمكنهم أن يكونوا معه، وأن يتبعوه..

    + ربّما يقول أحد: فماذا يارب؟ هل أنت تحتقر العاطفة الطبيعيّة؟ هل تأمرنا أن نبغض بعضنا بعضًا، وأن نتجاهل الحُبّ الذي يحقّ للآباء من أبنائهم، وللزوجات من أزواجهنّ، وللإخوة من إخوتهم؟ هل سنجعل مَن هُم أعضاء في نفس العائلة أعداءَ لنا؟ وللذين من واجبنا بالأولَى أن نحبّهم، يَلزمنا أن نعتبرهم كأعداء، وذلك لكي نكون معك، ولكيما يمكننا أن نتبعك؟!

    + ليس هذا هو ما يقصده المخلِّص. حاشا أن يكون له مثل هذا الفِكر الباطل. فإنّ الذي يأمُر بأن نحبّ حتّى الأعداء، وبأن نغفر لكلّ مَن يُسيء إلينا، إذ يقول: "أحبّوا أعداءكم... وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم" (مت5: 44)، كيف يمكن أن يريدنا أن نُبغِض مَن هم مولودون من نفس الأسرة، وأن نُغفِل الإكرام الواجب للوالدين، وأن نزدري بإخوتنا، بل نُبغِض أولادنا أيضًا وكذلك أنفسنا؟!

    + ما يُريد أن يُعلِّمه بهذه الوصايا، هو واضح لأولئك الذين يُمكنهم أن يفهموا ما قيل في موضع آخَر عن نفس الموضوع: "مَن أحبّ أبًا أو أُمًّا أكثر مِنّي فلا يستحقّني، ومَن أحبّ ابنًا أو ابنتةً أكثر مِنّي فلا يستحقّني" (مت10: 37). إذًا بإضافة عبارة "أكثر مِنّي" يتّضِح أنّه يسمح لنا أن نُحِب، لكن ألاّ نحبهم أكثر منه. لأنّه يطلب لنفسه عاطفتنا الرئيسيّة. وذلك عادلٌ جدًّا، لأنّ محبّة الله فيمَن هم كاملون في الذهن، فيها شيء ما أعلى وأسمى من الإكرام الواجب للوالدين، وأسمى من العاطفة الطبيعيّة التي نشعر بها تجاه الأولاد.

    + عندما يدعونا الله إليه، ليجعلنا شركاءَ في جوده وإحسانه، فإنّه يَلزَمنا أن نزدري بشهوات الجسد التي تخدم الجسد. وأن لا نُعطي أيّ اعتبار لأمور هذا العالم.. إذ أنّ الله يمنحنا عطاياه بيد سخيّة، مثل مَن يُرحِّب بنا في وليمة ثمينة، ويعطينا الحقّ أن نبتهج مع باقي القدّيسين، برجاء البركات الآتية. لأنّ الأرضيّات ليس لها سوى قيمة قليلة، ولا تدوم إلاّ لبُرهة قصيرة، وهي تختصّ بالجسد وحده، الذي هو فريسة للفساد، ولكنّ الأمور الإلهيّة والروحيّة هي دائمًا وباستمرار تُصاحِب أولئك الذين حُسِبوا أهلاً لنوالها، وتصِل إلى دهور لا نهايةَ لها.

    + هناك أمثلة كثيرة كانت لأناسٍ راغبين في حياة بلا لوم.. نجدهم قد ارتدّوا إلى الخلف، إمّا لارتباطهم بالأقرباء، أو بسبب كونهم أضعف من أن يحتملوا معركة المثابرة، أو لكونهم تعرقلوا في الفخاخ الشهوانيّة.. نجدهم قد أنكروا الإيمان، وتحاشوا واجب التألُّم بصبرٍ، وأظهروا أنفسهم ضعفاء وجبناء، فسقطوا من ثباتهم.

    + لذلك فلكي يخلق الربّ فينا ذِهنًا لا يتزعزع، ويجعلنا غير مكترثين بكلّ الأمور العالميّة، لأجل محبّتنا له، فإنّه يأمرنا أن نُبغِض حتّى أقرباءنا حسب الجسد، بل ونُبغِض أنفسنا حين يدعونا الوقت لهذا.

    + الذين اختاروا أن يحيوا حياة مجيدة وبلا لوم، يجب أن يختزنوا مُقدَّمًا في ذهنهم غيرة كافية لتحقيق ذلك، وأن يتذكّروا الذي يقول: "يا ابني إذا تقدّمتَ لخدمة الربّ، أعدد نفسك للتجربة، واجعل قلبك مستقيمًا واحتمل" (يشوع بن سيراخ 2: 1، 2). أمّا أولئك الذين ليست لهم مثل هذه الغيرة، فكيف يمكنهم أن يَصِلوا إلى الهدف الموضوع أمامهم؟!

    + نحن لنا أعداء كثيرون: الذهن الجسداني، الناموس الذي يحارب في أعضائنا، الأهواء متعدّدة الأنواع: شهوة اللذّة، شهوة الجسد، شهوة الغِنى، وغيرها من الشهوات. وينبغي أن نصارع مع هذه الشهوات، فهذه هي كتيبة أعدائنا المتوحشّين. فكيف إذن سننتصر؟

    بإيماننا، كما يقول الكتاب: إنّنا "بالله سوف نصنع ببأسٍ، وهو سيبيد أعداءنا" (مز59: 12 سبعينيّة).

    + بهذه الثقة يقول واحد من الأنبياء القدّيسين: "هوذا السيّد الربّ يعينني، فمَن هو الذي يجعلني أخزى" (إش50: 9س).

    + داود الإلهي يرنّم أيضًا قائلاً: "الربّ نوري وخلاصي مِمَّن أخاف، الربّ عاضد حياتي مِمَّن أرتعب" (مز26: 8س). لأنّه هو قوّتنا وبه سوف ننال النُصرة، لأنّه قد أعطانا أن ندوس على الحيّات والعقارب وعلى كلّ قوّة العدو.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 105) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]