الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (17)

* أحداث مؤسفة في كورنثوس:

    + نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:

    "وَلَمَّا كَانَ غَالِيُونُ يَتَوَلَّى أَخَائِيَةَ، قَامَ الْيَهُودُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى بُولُسَ، وَأَتَوْا بِهِ إِلَى كُرْسِيِّ الْوِلَايَةِ، قَائِلِينَ: إِنَّ هَذَا يَسْتَمِيلُ النَّاسَ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ بِخِلافِ النَّامُوسِ. وَإِذْ كَانَ بُولُسُ مُزْمِعًا أَنْ يَفْتَحَ فَاهُ قَالَ غَالِيُونُ لِلْيَهُودِ: لَوْ كَانَ ظُلْمًا أَوْ خُبْثًا رَدِيًّا أَيُّهَا الْيَهُودُ، لَكُنْتُ بِالْحَقِّ قَدِ احْتَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ مَسْأَلَةً عَنْ كَلِمَةٍ، وَأَسْمَاءٍ، وَنَامُوسِكُمْ، فَتُبْصِرُونَ أَنْتُمْ. لأَنِّي لَسْتُ أَشَاءُ أَنْ أَكُونَ قَاضِيًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ. فَطَرَدَهُمْ مِنَ الْكُرْسِيِّ. فَأَخَذَ جَمِيعُ الْيُونَانِيِّينَ سُوسْتَانِيسَ رَئِيسَ الْمَجْمَعِ، وَضَرَبُوهُ قُدَّامَ الْكُرْسِيِّ، وَلَمْ يَهُمَّ غَالِيُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ" (أع18: 12-17).

    + من الواضح أنّ اليهود الرافضين للإيمان بالمسيح، كانوا في حالة عداء شديد مع القدّيس بولس.. ليس لأنّه حاد عن الحقّ، بل لأنّه كان يفضح الباطل الذي يتمسّكون به.. وعلى الرغم أنّ القديس بولس كان سلاميًّا على طول الخطّ، ويستخدم سلاح الكلمة والفكر فقط، إلاّ أنّهم لسبب عجزهم عن الردّ عليه بالفكر، كانوا يستخدمون كلّ أنواع العُنف والمؤامرات وتلفيق التُهَم، بل والتخطيط للتخلُّص منه تمامًا..!

    + هذه المرّة، استطاعوا أن يرفعوا شكواهم إلى حاكم مقاطعة أخائيّة "جنوب اليونان".. ولكنّه لم يهتمّ بمناقشة قضيّتهم، إذ اعتبرها قضيّة دينيّة وليست مدنيّة، ومن الواضح أيضًا أنّه لم يكُن يحمل احترامًا لليهود بوجه عام، فطردهم من أمامه، مُطلِقًا سراح بولس، حتّى دون أن يسمع منه أيّ دفاع..!

    + لمّا لم يستطِع اليهود النَّيْل من بولس، تملّكهم الغيظ الشديد، فهيّجوا بعض اليونانيّين ضدّ سوستانيس رئيس المجمع، والذي كان قد آمن على يديّ بولس، وحاضرًا للمحاكمة أمام غاليون، ربّما ليدافع عن بولس.. فتمّ ضربه أمام كرسي غاليون، الذي لم يهتمّ بالأمر أو يُحرِّك ساكنًا.. وواضح أنّ اليهود كانوا أيضًا حانقين على سوستانيس رئيس المجمع، إذ اعتبروه مسؤولاً عن الانتشار الكبير للتعليم المسيحي الذي يُعلِّم به بولس، لأنّه أعطاه الفُرصة ليُعلِّم في المجمع..!

    + هكذا كانت مؤامرات اليهود تتكسَّر، الواحدة تلو الأخرى، على صخرة إيمان بولس وشهادته للحقّ مع كلّ تلاميذه، واستعدادهم لقبول الآلام والظُّلم.. واثقين أنّ نعمة المسيح يمكنها في يوم ما أن تلمس قلوب هؤلاء الظالمين بالمحبّة الإلهيّة، وتحوِّلهم من ذئاب إلى حملان..!

* عودة بولس من الرحلة الثانية:

    + نقرأ ما يلي:

    "وَأَمَّا بُولُسُ فَلَبِثَ أَيْضًا أَيَّامًا كَثِيرَةً، ثُمَّ وَدَّعَ الإِخْوَةَ وَسَافَرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى سُورِيَّةَ، وَمَعَهُ بِرِيسْكِلَّا وَأَكِيلَا، بَعْدَمَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي كَنْخَرِيَا لأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ. فَأَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ. وَأَمَّا هُوَ فَدَخَلَ الْمَجْمَعَ وَحَاجَّ الْيَهُودَ. وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ زَمَانًا أَطْوَلَ لَمْ يُجِبْ، بَلْ وَدَّعَهُمْ قَائِلاً: يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ أَعْمَلَ الْعِيدَ الْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَلَكِنْ سَأَرْجِعُ إِلَيْكُمْ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللهُ. فَأَقْلَعَ مِنْ أَفَسُسَ. وَلَمَّا نَزَلَ فِي قَيْصَرِيَّةَ صَعِدَ وَسَلَّمَ عَلَى الْكَنِيسَةِ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ" (أع18: 18-22).

    + كانت فترة خدمة القدّيس بولس في كورنثوس، هي أطول فترة يقضيها في الكرازة والتعليم داخل بلدة واحدة، منذ أن بدأ خدمته الكرازيّة وسط الأمم. وبالفعل آمَن شعب كثير في تلك المدينة الكبيرة المحوريّة، كما قال له الله في الرؤيا (أع18: 9-11).

    + كان في ذهن القدّيس بولس أن يذهب إلى أورشليم، ربّما لتقديم بعض المساعدات المادّيّة للفقراء، بحسب الاتفاق الذي تمّ أثناء المَجمَع هناك (غل1: 10).. واستحسَنَ أن يكون هناك أثناء العيد.. لذلك غادر كورنثوس، ذاهبًا إلى أورشليم، بعد أن نزل فترة قصيرة في أفسس، ثمّ قيصريّة.

    + "كَنخَريا" هي الميناء الرئيسي لمدينة كورنثوس، وتُعتَبَر كضاحية من ضواحيها..

    + يقول البعض أنّ النذر الذي كان على القدّيس بولس، بحلاقة شعر رأسه، هو يشابه ما جاء في شريعة النذير (عد6: 1-21).. ولعلّ النذر كان شكرًا لله على إنقاذه من خطرٍ معيّن..!

    + ما هو العيد الذي يقصده القدّيس بولس؟ غير معروف على وجه التحديد.. وربّما يكون عيد الفصح اليهودي، الذي يتزامن مع تذكار صلب المسيح وقيامته، أو عيد حلول الروح القدس (البنتيكوستي).. ولكن بوجه عام هذا يكشف عن وجود احتفالات بالأعياد في الكنيسة الأولى، كما توجَد إشارات أخرى للاحتفال بالأعياد، أو لفترات أصوام عامّة أيضًا، كانت كنيسة القرن الأوّل تُمارَسها (1كو16: 8، أع27: 9).. وهذه هي بدايات ظهور السنة الليتورجيّة بمناسباتها المتعدّدة، والتي تبلورَت في الكنيسة بشكل أوضح فيما بعد.

    + عندما عبر القدّيس بولس على أفسس في غرب آسيا الصغرى (حاليًا تركيا)، وجد أنّ هناك حقولاً ابيَضَّت للحصاد، وشعبًا كثيرًا عطشانًا لسماع كلمة الله يطلبه.. فقام بالتبشير بينهم لفترة قصيرة، ووعدهم أن يعود إليهم بسرعة بعد زيارة أورشليم، وبالفعل في رحلته الكرازيّة الثالثة ذهب إلى أفسس، وكانت هي مركز خدمته لمدّة حوالي ثلاث سنوات كاملة..

    + بريسكيلا وأكيلا، كانا ملازمَين للقدّيس بولس، في السَّفَر من كورنثوس إلى أفسس، وقد تركهما هناك للكرازة بهدوء في وسط اليهود، ثمّ عاد إليهم في رحلته الثالثة..

    + "إن شاء الله".. هكذا سلّم القدّيس بولس كلّ حياته لتكون بحسب مشيئة الله وتدابيره. لذلك كان الله يتمجّد دائمًا فيه.

    + "سَلَّمَ عَلَى الْكَنِيسَةِ".. المقصود الكنيسة الأمّ في أورشليم، وبالتحديد الرسل الذين كانوا هناك.. أي قيادة الكنيسة الكهنوتيّة الرسوليّة.. وأيضًا الكنيسة تعني كلّ المؤمنين أعضاء جسد المسيح.

    + " ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ".. تُستَخدَم كلمة "صعد" في الذهاب إلى "أورشليم"، لأنّها منطقة مرتفعة. وتُستَخدَم كلمة "انحدر" عند الخروج من "أورشليم" والذهاب إلى المناطق الساحليّة المنخفضة. وهكذا أنهى القدّيس بولس رحلته الثانية في مدينة أنطاكية، كما بدأها من هناك قبل حوالي ثلاث سنوات.

+ + +

* كنتُ أتصوَّر أنّنا سنستطيع الانتهاء من دراسة حياة القدّيس بولس الرسول كلّها في 17 حلقة، تنتهي مع عيد استشهاده اليوم.. ولكنّنا في الحقيقة لم نبلغ إلاّ إلى النصف فقط تقريبًا.. ويتبقّى أمامنا رحلته الكرازيّة الثالثة الغنيّة بالأحداث، ثمّ رحلته إلى أورشليم والقبض عليه هناك، ثم محاكماته العديدة أمام ولاة وملوك، والتي انتهت بترحيله إلى روما ليقف أمام محكمة قيصر، ثمّ خدمته بعد الإفراج عنه، حتّى سجنه الثاني واستشهاده.. تلك المراحل التي تُشكِّل السنوات العشر الأخيرة من حياته تقريبًا، وهي مملوءة بالكرازة والكتابة والتلمذة، وبالتالي ستحتاج لسلسة جديدة من المقالات، أستأذنكم في تأجيلها لوقتٍ لاحق بإذن الله.

    بركة صلوات الكارز العظيم معلّمنا القدّيس بولس الرسول، تكون معنا جميعًا. آمين.

    كلّ عام وأنتم بخير،،

17 / 17