الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (16)

* القدّيس بولس يبدأ الكرازة في كورنثوس:

    + نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:

    "وَبَعْدَ هَذَا مَضَى بُولُسُ مِنْ أَثِينَا وَجَاءَ إِلَى كُورِنْثُوسَ، فَوَجَدَ يَهُودِيًّا اسْمُهُ أَكِيلا، بُنْطِيَّ الْجِنْسِ، كَانَ قَدْ جَاءَ حَدِيثًا مِنْ إِيطَالِيَةَ، وَبِرِيسْكِلا امْرَأَتَهُ، لأَنَّ كُلُودِيُوسَ كَانَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يَمْضِيَ جَمِيعُ الْيَهُودِ مِنْ رُومِيَةَ، فَجَاءَ إِلَيْهِمَا. وَلِكَوْنِهِ مِنْ صِنَاعَتِهِمَا أَقَامَ عِنْدَهُمَا وَكَانَ يَعْمَلُ، لأَنَّهُمَا كَانَا فِي صِنَاعَتِهِمَا خِيَامِيَّيْنِ. وَكَانَ يُحَاجُّ فِي الْمَجْمَعِ كُلَّ سَبْتٍ وَيُقْنِعُ يَهُودًا وَيُونَانِيِّينَ. وَلَمَّا انْحَدَرَ سِيلا وَتِيمُوثَاوُسُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، كَانَ بُولُسُ مُنْحَصِرًا بِالرُّوحِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْيَهُودِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. وَإِذْ كَانُوا يُقَاوِمُونَ وَيُجَدِّفُونَ نَفَضَ ثِيَابَهُ وَقَالَ لَهُمْ: دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ. أَنَا بَرِيءٌ. مِنَ الآنَ أَذْهَبُ إِلَى الأُمَمِ. فَانْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَجُلٍ اسْمُهُ يُوسْتُسُ، كَانَ مُتَعَبِّدًا لِلهِ، وَكَانَ بَيْتُهُ مُلاصِقًا لِلْمَجْمَعِ. وَكِرِيسْبُسُ رَئِيسُ الْمَجْمَعِ آمَنَ بِالرَّبِّ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ، وَكَثِيرُونَ مِنَ الْكُورِنْثِيِّينَ إِذْ سَمِعُوا آمَنُوا وَاعْتَمَدُوا" (أع18: 1-8).

    + ذهب بولس أوّلاً بمفرده إلى كورنثوس، وبعد فترة لحق به سيلا وتيموثاوس.

    + كانت مدينة "أثينا" تعجّ بالفلاسفة، والجوّ العام فيها كأنّه جامعة أكاديميّة.. بينما في المُقابِل تبدو مدينة "كورنثوس" كسوق تجاري كبير، مزدحم بمختلَف أنواع البشر، مع فساد أخلاقي ملحوظ.. كما كانت مكانًا لتجمُّع أعداد كبيرة من اليهود، الذين تمّ طردهم من روما بأمر كلوديوس قيصر.

    + "بنطيّ" أي مولود في منطقة بنطس بشمال آسيا الصغرى.

    + من الواضح أن أكيلا وبريسكلا زوجته كانا يهوديّين، وكانا يتنقّلان بين البلاد ويعملان في صناعة الخيام.. ويبدو أنّهما تعرّفا على القدّيس بولس أثناء كرازته في المَجمَع اليهودي بكورنثوس، وآمنا على يديه بالمسيح.

    + صناعة الخيام هي المهنة التي كان يعرفها بولس الرسول منذ صغره، ويعمل بها من وقت لآخَر.. فكان مُكرَّسًا للخدمة ويعمل في نفس الوقت، وبالذّات في الأماكن الجديدة، والتي لا توجَد بها كنائس مستقرّة يمكنها أن تعول الخُدّام المكرّسين.

    + التعليم هو الشَّبَكة التي تصيد النفوس للإيمان.. وقد يكون التعليم مصحوبًا ببعض المعجزات، أو لا يكون.. ولكن لابد أن يقترن التعليم بروح الأبوّة مع القدوة والحُبّ الباذل.

    + أمام مثابرة بولس في التعليم، كانت هناك مقاومة عنيفة وتجديف ضدّ الإيمان بالمسيح من بعض اليهود..ولكن القدّيس بولس فعل ما أوصَى به الربّ يسوع، فنفض ثيابه، وقال لهم أنّي بريء من دمكم، وسأتوجّه بالكرازة إلى الأمم.. وهذا ما يجب أن يفعله الخادم، عندما تُغلَق الأبواب في وجهه، فهناك أناس آخرون جياع وعطاش إلى البِرّ، يمكنه أن يتوجّه لخدمتهم..!

    + مع وجود إزعاج كبير من بعض المقاومين، يوجَد أيضًا مجموعات كبيرة تؤمن.. وقد بارك الله ودبّر مكانًا ليكون مَركَزًا للكنيسة في كورنثوس؛ وهو بيت يوستُس الذي كان ملاصقًا للمجمع اليهودي، فتحوّلت الاجتماعات عليه.

    + نلاحظ أنّ الذي يؤمن لا يأتي للمسيح بمفرده، بل مع كلّ أهل بيته، مثل كريسبُس رئيس المجمع اليهودي، والذي عمّده بولس بنفسه (1كو1: 14).. ولعلّنا أيضًا نلاحظ باستمرار أنّ كلّ الذين يؤمنون يعتمدون فورًا، فالإيمان والمعموديّة متلازمان، إذ بالمعموديّة يتمّ الاتحاد بالمسيح على شكل موته ودفنه وقيامته، ويتمّ عن طريقها الغرس في جسد المسيح، ونوال نعمة البنوّة لله الآب، وبالتالي التأهُّل لميراث ملكوته..!

    + يبدو أنّ القدّيس بولس كان يريد أن يغادر كورنثوس بسرعة بعد أنّ أسّس الكنيسة فيها، كعادته في كلّ البلاد أن يلقي بذار الملكوت ويتركها تنمو، بينما هو يذهب كي يلقي البذار في مدينة أخَرى.. ولكنّ الله كان له رأيٌ آخَر..!

    + نقرأ ما يلي:

    "فَقَالَ الرَّبُّ لِبُولُسَ بِرُؤْيَا فيِ اللَّيْلِ: لا تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلَا تَسْكُتْ، لأنِّي أَنَا مَعَكَ، وَلا يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ، لأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ. فَأَقَامَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ" (أع18: 9-11).

    + ربّما كانت هناك تهديدات بقتل بولس، كما حدث في تسالونيكي وبيريّه، فكان التفكير العام منه ومن مرافقيه أن يترك المدينة ويذهب ليكرز في مكان آخر.. لذلك كلّمه الله في رؤيا، لكي يُطَمئِنه، ويؤكِّد له أنّ خطّته هي البقاء لمدة طويلة في كورنثوس، وبالفِعل أطاع بولس، ومكث لفترة سنة ونصف يكرز ويعلّم.. وكانت هذه أول مرّة في رحلاته الكرازيّة أن يبقى في مدينة واحدة كلّ هذه المُدّة..!

    + أحيانًا نتوقّع أنّ الخدمة في بعض الأوساط لن تأتي بثمر، ربّما لسبب كثرة انتشار الفساد، أو وجود مقاومات وتحدّيات صعبة.. ولكنّ الله قد يكون له نظرة أخرى تمامًا، فيعطي نعمة كبيرة، وتنجح الخدمة، وتنمو بقوّة.. هو فقط يريد خدّامًا مطيعين صبورين على المشقّات، وينتظر دائمًا أن نقدّم له أنفسنا بلا شروط، لكي يعمل فينا وبنا..!

    + أيضًا أثناء خدمة القدّيس بولس في كورنثوس، بمنطقة أخائية بجنوب اليونان، كان يتابع الكنائس التي أسّسها في منطقة مكدونية بشمال اليونان، وهي كنائس فيلبّي وتسالونيكي وبيريّة.. فكتب رسالتين متتاليتين لأهل تسالونيكي، وأرسلهما مع تيموثاوس.. وكانت هاتان الرسالتان هما أوّل رسائله الرعويّة، وأوّل ما كُتِب من أسفار العهد الجديد كلّه، وذلك في أواخر عام 52 ميلاديّة.

(يُتّبَع)

16 / 17