الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (15)

* بولس يكرز في أثينا:

    + نقرأ في سِفر أعمال الرسل ما يلي:

    "وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا (سيلا وتيموثاوس) فِي أَثِينَا احْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى الْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَامًا. فَكَانَ يُكَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ الْيَهُودَ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَالَّذِينَ يُصَادِفُونَهُ فِي السُّوقِ كُلَّ يَوْمٍ. فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الأَبِيكُورِيِّينَ وَالرِّوَاقِيِّينَ، وَقَالَ بَعْضٌ: تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هَذَا الْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟. وَبَعْضٌ: إِنَّهُ يَظْهَرُ مُنَادِيًا بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ. لأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَالْقِيَامَةِ. فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى أَرِيُوسَ بَاغُوسَ، قَائِلِينَ: هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ هَذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ الَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ؟ لأَنَّكَ تَأْتِي إِلَى مَسَامِعِنَا بِأُمُورٍ غَرِيبَةٍ، فَنُرِيدُ أَنْ نَعْلَمَ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ. أَمَّا الأَثِينَوِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَالْغُرَبَاءُ الْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلا يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ، إِلاّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئًا حَديثًا" (أع17: 16-21).

    + مدينة أثينا تقع في مقاطعة أخائية، بجنوب اليونان، وهي عاصمة اليونان الآن.. وكانت عاصمة الحِكمة في العالم القديم، ومقرّ عظماء الفلاسفة والشعراء.

    + كان بولس في أثينا وحيدًا، ينتظر الخدّام أحباءه ومعاونيه، فهو لم يعتَد أن يخدم منفردًا.. ولكنّه لم يستطع أيضًا أن يسكت..!

    + احتدّت روحه.. لأنّ الذي ذاق محبّة المسيح، وشركة الحياة الأبديّة، يعزّ عليه أن يرى الناس تائهة وراء عبادات مزيّفة، وتسير في طريق الهلاك بعيدًا عن الربّ يسوع المُخلّص..

    + المدينة مملوءة أصنامًا.. الأصنام هي آلهة غريبة، تشغل الناس عن الله الواحد، الذي فيه خلاصهم.. وبولس الرسول كيهودي سابق تربّى على كراهية الأصنام، عندما رأى كثرة الأصنام في الشوارع، تضايق جدًّا وحزنت روحه في داخله..

    + بدأ القدّيس بولس يتكلّم بكلمة الله في المجمع اليهودي أيّام السبوت، وأيضًا يتكلّم في السوق باقي أيّام الأسبوع مع مَن يجدهم هناك.. وهو يَعلَم أنّ كلمة الله لا تعود فارغة (إش55: 11)، وأنّ عمله ككارز هو أن ينثر بذار الكلمة الإلهيّة في كلّ مكان، لعلّها تجد أرضًا صالحة فتنبت وتصنع ثمرًا..!

    + الفلاسفة الأبيقوريّون والرواقيّون هما مجموعتان من الباحثين والحكماء اليونانيّين، الذين يؤمنون بأنّ الكمال يمكن إنجازه في هذه الحياة الأرضيّة، عن طريق الهدوء الانفعالي واللامبالاة.. ولكنّهما يختلفان في طريقة السعي للكمال؛ فالأبيقوريّون يطلبون المتعة، والرواقيّون ينبذونها. والاثنان لا يؤمنان بالقيامة والحياة الأخرى.

    + المهذار.. جاءت في أصلها "الثرثار" أو الشخص الجاهل الذي ينثُر بافتخار الكلام "الخُردة" هنا وهناك.

    + كان يبشّرهم بيسوع والقيامة.. وهذا هو محور إيماننا بشخص المسيح، الذي يدعونا أن نتّحد به ونصير أعضاء في جسده، بعد أن غلب الموت لحسابنا، وأعطانا بقيامته حياة أبديّة..!

    + أريوس باغوس هو ما يُشبه ساحةً أو مسرحًا كبيرًا مبنيًّا على تلٍّ عالٍ، كان الناس يجتمعون فيه ليسمعوا الأشعار والخطابة، كما كان هو المكان الذي يُحاكَم فيه الرجال العظماء، حيث تُفحَص فيه أفكارهم..!

    + الانطباع الأوّل عن بولس في نظر الأثينيّين أنّه ينادي بآلهة غريبة، ويتكلّم بتعليم جديد، ويأتي إلى مسامعهم بأمور غريبة..!

    + كان سُكّان أثينا مغرمين بالحديث والسماع عن الأشياء الجديدة.. وللأسف كانوا يضيّعون حياتهم عبثًا، بعيدًا عن معرفة الله، إذ يتوهُون وراء أمور لا تنتهي ولا تُشبِع الروح.. أمّا مَن عرف طريق المسيح، فهو يتمتّع بأسراره كلّ يوم، ويتذوّقه جديدًا، وينمو في حبّه ومعرفته باستمرار.

    + القدّيس مار إسحق السرياني يقول عن النفس المُحبّة للأشياء الجديدة، أنّها تكون مثل المركب التي تفرد قلوعها لكلّ ريح.. فهي من الصعب أن تصل إلى هدفها، ولا حتّى تسير في طريقها بسلام..!

    + بسبب محبّة سكان أثينا للسماع عن الأشياء الجديدة، استهواهم حديث بولس، وأرادوا أن يسمعوا ما يقوله بأكثر تفصيل..

    + عظة القدّيس بولس في أثينا:

    "فَوَقَفَ بُولُسُ فِي وَسْطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ وَقَالَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الأَثِينِوِيُّونَ، أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيرًا، لأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ، وَجَدْتُ أَيْضًا مَذْبَحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: «لإِلَهٍ مَجْهُولٍ». فَالَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هَذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. الإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لا يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي، وَلَا يُخْدَمُ بِأَيَادِي النَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ. فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ اللهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ اللاّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرِ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَاخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ. فَاللهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ. لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّمًا لِلْجَمِيعِ إِيمَانًا إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ" (أع17: 22-31).

    + يبدأ القدّيس بولس بمدح مستمعيه، ويَذكر تديّنهم الكبير، واهتمامهم بالآلهة والعبادة والمذابح..

    + دائمًا عندما يُبشِّر القدّيس بولس بالمسيح، فهو يستخدم نقطة بداية تكون معروفة عند سامعيه.

    + كان المدخل في حديثه هو المذبح الذي لإله مجهول، فالذي يتّقونه وهم يجهلونه هو ينادي به..!

    + قدّم القديس بولس حديثًا شيّقًا ومنطقيًّا عن الله، فذَكَر أنّه: خلق العالم والسماء والأرض - غير محدود - لا يحتاج لشيء - واهب الحياة للكلّ - صانع البشريّة جميعها من عجينة واحدة، فكلّنا متساوون - مُدّبِّر الكون وضابط الكلّ والمسيطر على الزمان والمكان - ليس بعيدًا عنّا، بل يريد أن يدخل معنا في شركة - به نحيا ونتحرّك ونوجَد - لاهوته لا يمكن تشبيهه بذهبٍ أو حجر - يريدنا أن نتوب وسيتغاضى عن أزمنة الجهل - حدّد يومًا للدينونة العادلة، وسيدين العالم بالمسيح القائم من الأموات.

    + هكذا قاد الروح القدس بولس أن يقدّم رسالة شاملة وواضحة، إلى هؤلاء الوثنيّين، عن محبّة الله وقدرته وخلاصه، مع دعوتهم للتوبة والإيمان بالمسيح المخلّص والديّان في نفس الوقت..!

    + الكلام يكشف أيضًا عن خلفيّة القدّيس بولس الثقافيّة الكبيرة، مع عمق معرفته الكتابيّة، وقُدرته على استخلاص الحقائق، وتقديمها في أبسط وأنسب صورة لسامعيه.

    + انتبَهَ السامعون بالتأكيد لما يخصّ ثقافتهم وأشعارهم، وقد لا يكونون منتبهين للعبارات التي استخدمها القديس من صُلب الإيمان المسيحي وأسفار الكتاب المقدّس مثل:

  - "وأنتم تجهلونه" (يو4: 22) "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون".

  - "لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي" (أع7: 48) من عظة استفانوس.

  - "يعطي الجميع حياةً ونفسًا وكلّ شيء" جاءت في: (إش42: 5) و(زك12: 1).

  - "حَتّم بالأوقات المعيَّنة وحدود مسكنهم" (تث32).

  - "لا ينبغي أن نظنّ أنّ اللاهوت شبيه بذهب أو فضّة أو حَجَر نقش صناعة واختراع إنسان" (إش40: 18، 19).

    + كان القدّيس بولس يبني على ما هو موجودٌ لديهم، مثل: المذابح والعبادة والآلهة والشعراء والفكر المنطقي، لكي يَصِل إلى أساسيّات المسيحيّة، من توبة وإيمان بالقيامة والدينونة..

    + كان يبدو أنّه يحترم مذابحهم، ولكن في ثنايا كلامه كان يحطّم فكرة الأصنام والمعابد الوثنيّة بالكامل، مُشجِّعًا أيّاهم على الرجوع إلى الإله الحقيقي خالقنا، الذي به نحيا ونتحرّك ونوجَد، أي منه نستمدّ كينونتنا ووجودنا وحياتنا.

    + ثمّ نقرأ ما يلي:

    "وَلَمَّا سَمِعُوا بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ كَانَ الْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَالْبَعْضُ يَقُولُونَ: سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هَذَا أَيْضًا؟! وَهَكَذَا خَرَجَ بُولُسُ مِنْ وَسْطِهِمْ. وَلَكِنَّ أُنَاسًا الْتَصَقُوا بِهِ وَآمَنُوا، مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ الأَرِيُوبَاغِيُّ، وَامْرَأَةٌ اسْمُهَا دَامَرِسُ وَآخَرُونَ مَعَهُمَا" (أع17: 32-34).

    + كان القدّيس بولس يؤمن أنّ خميرة صغيرة يمكنها أن تكون سبب بركة للمدينة كلّها، وفرح بالعدد البسيط من الذين آمنوا.. ويُقال أن ديونيسيوس الأريوباغي قد صار أسقفًا للمدينة في وقتٍ لاحق.

    + ملاحظات على خدمة القدّيس بولس القصيرة في أثينا:

   1- بولس الرسول خادم جريء.. يرمي شباكه في كلّ مكان، لعلّه يظفر بأيّ صيد لصالح المسيح وملكوته..!

   2- الثقافة العامّة تساعد كثيرًا في الخدمة والشهادة للمسيح، والروح القدس يمكنه أن يستخدم كلّ إمكانيّاتنا المعرفيّة لمجد الله.

   3- الروح القدس يعمل أيضًا خارج أسوار الكنيسة (كما رأينا في استشهاد القدّيس بولس بأقوال من الشعر اليوناني كحقائق سليمة).. علينا أن نكتشف ذلك، ونبني عليه في حديثنا الكرازي.

   4- يجب أن نقبل أن نكون أحيانًا مرفوضين، ولا نفقد الأمل أبدًا في خلاص الناس.

   5- ليس مُهمًّا أن يتجاوب الجميع مع ما نقدّمه من رسائل روحيّة، ولكن ينبغي أن نؤمن أن البذار التي نلقيها هي بذار حيّة، وستأتي بثمار ستنمو وتتكاثر بمرور الوقت.. وها نحن الآن نرى أثينا مدينة مسيحيّة بالكامل..!

(يُتَّبَع)

15 / 17

* الصورة لسلم قديم مؤدِّي لساحة أريوس باغوس بمدينة أثينا.