الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (14)

* تابع الرحلة الكرازيّة الثانية:

* الكرازة في تسالونيكي:

    + نقرأ ما يلي:

    "فَاجْتَازَا فِي أَمْفِيبُولِيسَ وَأَبُولُونِيَّةَ، وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي، حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ الْيَهُودِ. فَدَخَلَ بُولُسُ إِلَيْهِمْ حَسَبَ عَادَتِهِ، وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاثَةَ سُبُوتٍ مِنَ الْكُتُبِ، مُوَضِّحًا وَمُبَيِّنًا أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَنَّ: هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ يَسُوعُ الَّذِي أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلا، وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ، وَمِنَ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ. فَغَارَ الْيَهُودُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَاتَّخَذُوا رِجَالاً أَشْرَارًا مِنْ أَهْلِ السُّوقِ، وَتَجَمَّعُوا وَسَجَّسُوا الْمَدِينَةَ، وَقَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ طَالِبِينَ أَنْ يُحْضِرُوهُمَا إِلَى الشَّعْبِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوهُمَا، جَرُّوا يَاسُونَ وَأُنَاسًا مِنَ الإِخْوَةِ إِلَى حُكَّامِ الْمَدِينَةِ صَارِخِينَ: إِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هَهُنَا أَيْضًا. وَقَدْ قَبِلَهُمْ يَاسُونُ. وَهَؤُلاءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ: إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ. فَأَزْعَجُوا الْجَمْعَ وَحُكَّامَ الْمَدِينَةِ إِذْ سَمِعُوا هَذَا. فَأَخَذُوا كَفَالَةً مِنْ يَاسُونَ وَمِنَ الْبَاقِينَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ" (أع17: 1-9).

    + تقع مدينة تسالونيكي في شمال اليونان، وهي المدينة الأكبر والأهمّ في مقاطعة مَكِدونية، وبها ميناء متميّز، كما أنّها مركز تجاري كبير. وهي تبعُد حوالي 100 ميل غرب فيلبي، وغربها بحوالي 60 ميل تقع مدينة بيريه.. وقد سُمِّيَت "تسالونيكي" على اسم أخت الإسكندر الأكبر.. وقبل إنشاء مدينة القسطنطينيّة في القرن الرابع، كانت تسالونيكي هي عاصمة الشرق. وكانت مدينة حُرّة، تحكم نفسها بنفسها، فلم تكُن تحت حُكم وُلاة من خارجها.

    + "فاجتازا".. نلاحظ أنّ الحديث بدأ يأخُذ صيغة الغائب مرّة أخرى، وهذا يعني أنّ بولس وسيلا بمفردهما بدون لوقا وتيموثاوس.

    + من الواضح أنّ رأسمال القدّيس بولس الذي يتاجر فيه، هو كلمة الله الموجودة في الكتب المقدّسة.. وهو كان يؤمن أن الارتواء بالأسفار المقدّسة هو الذي يغرس في النفوس الإيمان بالمسيح، إذ أن المسيح هو محور الأسفار المقدّسة وقلبها النابض. وبالطبع فإنّ الكتب المقدّسة المقصودة هي أسفار العهد القديم.

    + يُحاجّهم تعني يشرح لهم موضِّحًا الحقائق بالمنطِق والحُجَج، كشهادة للحقّ.

    + "اليونانيوّن المتعبّدون" أي الذين يخافون الله، وهم ليسوا يهودًا، ولكن يحضرون المجامع اليهوديّة.. لقد كانوا يؤمنون بالمسيح بأعداد كبيرة، إذ ليس لديهم التعصُّب للقوميّة والتقاليد القديمة مثل اليهود.

    + أسلوب اليهود في مقاومة الكرازة بالمسيح، هو دائمًا أسلوب عنيف، ومملوء بالمؤامرات والشّغَب وتلفيق الاتهامات الظالمة، والاستعانة بالبلطجيّة.. وهذه بالطبع علامات العجز عن مواجهة الحُجَج القويّة التي كان يقدّمها الكارزون، بنور محبّة المسيح المخلّص.

    + عندما يُقال "غار اليهود" فهذا النوع من الغيرة هو غيرة شرّيرة، وليست حسب التقوى أو حسب المعرفة.. ولذلك تبعها تحريض وتلفيق اتّهامات وتأجير بلطجيّة وعُنف..

    + ما حاول اليهود في تسالونيكي اتهام بولس به، يماثل بالضبط ما حاول اليهود اتهام المسيح به كملِك منافس لقَيصر.. كلّها اتهامات سياسيّة كاذبة.

    + الكفالة التي أخذها الحُكّام من ياسون، هي مبلغ يوضع تحت الحفظ كضمان، حتّى يَحفظ ياسون السلام العام في المستقبل. وغالبًا هذا لن يتحقّق إلاّ باستبعاد القدّيس بولس من المدينة، وهو ما حدث.

    + يقول بعض الدارسين أنّ ياسون كان رئيس المجمع. والبعض يقولون أنّه يهودي آمن بالمسيح على يدّ بولس، وفتح بيته لإقامة بولس والكارزين الذين معه. وقد يكون أيضًا من أقرباء بولس الذين يساعدونه (رو16: 21).

    + جدير بالذِّكر أنّ علاقة القدّيس بولس بالمؤمنين في فيلبّي لم تنقطع بعد أن تركها، بل كان يُتابع نموّ الكنيسة هناك، وهو في تسالونيكي.. كما أنّ كنيسة فيلبّي الناشئة أرسَلَتْ أكثر من مرّة عطاء سخيًّا لبولس وهو يكرز في تسالونيكي، من أجل احتياجات الخدمة والخُدّام (في4: 16).. وبالطبع هذا يكشف عن نموّ المحبّة في قلوب المسيحيّين بفيلبّي، مع قوّة الإحساس بالشركة والمسؤوليّة في جسد المسيح الواحد..!

    + لم يتلقَّ بولس أيّة مساعدات ماليّة من أهل تسالونيكي أثناء خدمته بينهم، بل كان يعمل بيديه ليقوت نفسه ومَن معه.. ضاربًا لهم مثالاً لكي لا يستسلموا للكسَل، بل يجتهدوا في عملهم، ويأكلوا من تعب أيديهم، غير معتمدين على المساعدات والعطايا (1تس2: 9، 2تس3).

    + من الواضح أنّ مُدّة كرازة بولس الرسول في تسالونيكي لم تتجاوز الشهر، فهي فقط ثلاثة سبوت.. ومع ذلك فقد تأسّست كنيسة قويّة في تسالونيكي، صار لها تأثير كبير في انتشار الإيمان بالمناطق المحيطة (1تسا1: 7-10).. وظلّ القدّيس بولس يرعاها ويهتمّ بها بعد مغادرتها، وأرسل لها بعد شهور قليلة رسالتين، هُما أوّل كتاباته، بل أوّل أسفار العهد الجديد، من جهة زمن الكتابة.

* الكرازة في بيريّه:

    + نقرأ ما يلي:

    "وَأَمَّا الإِخْوَةُ فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلُوا بُولُسَ وَسِيلا لَيْلاً إِلَى بِيرِيَّةَ. وَهُمَا لَمَّا وَصَلا مَضَيَا إِلَى مَجْمَعِ الْيَهُودِ. وَكَانَ هَؤُلاءِ أَشْرَفَ مِنَ الَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ الأُمُورُ هَكَذَا؟ فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ النِّسَاءِ الْيُونَانِيَّاتِ الشَّرِيفَاتِ، وَمِنَ الرِّجَالِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ. فَلَمَّا عَلِمَ الْيَهُودُ الَّذِينَ مِنْ تَسَالُونِيكِي أَنَّهُ فِي بِيرِيَّةَ أَيْضًا نَادَى بُولُسُ بِكَلِمَةِ اللهِ، جَاءُوا يُهَيِّجُونَ الْجُمُوعَ هُنَاكَ أَيْضًا. فَحِينَئِذٍ أَرْسَلَ الإِخْوَةُ بُولُسَ لِلْوَقْتِ لِيَذْهَبَ كَمَا إِلَى الْبَحْرِ، وَأَمَّا سِيلَا وَتِيمُوثَاوُسُ فَبَقِيَا هُنَاكَ. وَالَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ جَاءُوا بِهِ إِلَى أَثِينَا. وَلَمَّا أَخَذُوا وَصِيَّةً إِلَى سِيلا وَتِيمُوثَاوُسَ أَنْ يَأْتِيَا إِلَيْهِ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، مَضَوْا" (أع17: 10-15).

    + "الإخوة" هم المؤمنون الجُدُد بالمسيح من تسالونيكي.. وقد أبعَدوا بولس وسيلا ليلاً من أجل حمايتهما، فقد كانت حياتهما في خطر..!

    + بيريّة هي مدينة تبعد حوالي 60 ميلاً (حوالي 100 كيلومتر) عن تسالونيكي، من ناحية الغرب.

    + أجمل ما يميّز أهل بيريّة أنّهم قبلوا الكلمة بنشاط فاحصين الكتب.. فتفتيش الكتب بإخلاص ينير الذهن بالفهم الروحي، وهذا بالتالي يرفع من مستوى الإنسان.. ومن هنا وَصَفَ الإنجيل أهل بيريّة من اليهود أنّهم كانوا أشرف من أهل تسالونيكي..!

    + شرّ يهود تسالونيكي امتدّ إلى بيريّة، فقطعوا مسافة كبيرة للحضور من أجل مقاومة القدّيس بولس وكرازته..

    + الشيطان لا يكلّ، ويحاول أن يتعقَّب الخُدّام في كلّ مكان، ولكنّه يخيب ويفشل بسبب أمانة الخُدّام وحكمتهم، مع نعمة الله التي تساندهم.

    + نلاحظ أنّ بولس وسيلا يواصلان رسالتهما الكرازيّة في كلّ مكان جديد، بصرف النظر عن ما حدث من قبل من متاعب، وما هو متوقَّع أن يواجههما في المستقبل أيضًا، من المقاومين للنور.. هما ينشران كلمات الحياة الأبديّة بشكل مستمرّ، لأنّه يوجَد نفوس متعطّشة للمسيح في كلّ مكان..!

    + للأسف لم يهنأ أهل بيريّة مدّة طويلة بمعلّمهم الجميل بولس، على الرغم من استعدادهم الكبير لقبول كلمات النعمة.. لكن بسبب هياج اليهود، اضطرّ بولس لمغادرة بيريّة بمفرده، والإبحار إلى أثينا في الجنوب.

(يُتَّبَع)

14 / 17