الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (13)

* بولس وسيلا في سجن فيلبّي:

    + نقرأ في سِفر أعمال الرسل ما يلي:

    "وَنَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلا يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ اللهَ، وَالْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا. فَحَدَثَ بَغْتَةً زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ السِّجْنِ، فَانْفَتَحَتْ فِي الْحَالِ الأَبْوَابُ كُلُّهَا، وَانْفَكَّتْ قُيُودُ الْجَمِيعِ. وَلَمَّا اسْتَيْقَظَ حَافِظُ السِّجْنِ، وَرَأَى أَبْوَابَ السِّجْنِ مَفْتُوحَةً، اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، ظَانًّا أَنَّ الْمَسْجُونِينَ قَدْ هَرَبُوا. فَنَادَى بُولُسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: لا تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئًا رَدِيًّا! لأَنَّ جَمِيعَنَا هَهُنَا. فَطَلَبَ ضَوْءًا وَانْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ، وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلا وَهُوَ مُرْتَعِدٌ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟ فَقَالا: آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ. وَكَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ. فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَاعْتَمَدَ فِي الْحَالِ هُوَ وَالَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ. وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً، وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاللهِ" (أع16: 25-34).

    + الذي يشعر بضعفه، لا يكفّ عن الصلاة.. فالصلاة هي قوّة الضعيف.. وغياب الصلاة يُعني أنّنا لا نشعر بضعفنا واحتياجنا، وفي هذا خدعة وخطر كبير.

    + الصلاة هي دائمًا الشُّغل الشاغل للكارزين، لذلك استمرّوا فيها، على الرغم من كلّ الآلام والظُّلم والظروف القاسية.

    + جوّ السجن الصعب المُظلم تحوّل إلى سماء منيرة مملوءة بالتسبيح.. هكذا أولاد الله يحوّلون الأجواء التي حولهم بقوّة الصلاة وعمل الروح القدس الحيّ فيهم.

    + نلاحظ أنّ القدّيسين بولس وسيلا لم يكونا مشغولَين بآلامهما وجراحاتهما، بل بيسوع الذي أحبّهما ومات من أجلهما.. لذلك استيقظا في منتصف الليل ليسبّحاه ويمجّداه، متيقنّين من صدق كلامه: "طوبى لكم إذا طردوكم وعيّروكم.. افرحوا وتهلّلوا لأنّ أجركم عظيم في السموات".. وهكذا كان إيمان بولس أنّ "خفّة ضيقتنا الوقتيّة تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبديًّا" (2كو4: 17).

    + لقد رتّبت لنا الكنيسة صلاةً في نصف الليل، وفي بدايتها نقول: قوموا يا بني النور لنسبّح ربّ القوّات..

    + لم يكُن الرسولان يتوقّعان حدوث معجزة، ولكنّ الله يتدخّل في الوقت المناسب.. وكلّ شيء مستطاع عند الله..

    + زلزلة عظيمة.. زعزعت أساسات السجن.. وفتحت الأبواب كلّها.. وفكّت قيود الجميع.. ولكن من الواضح أنّ كلّ المسجونين كانوا قد تاثّروا ببولس وسيلا، وشعروا بقوّة حضور الله.. فلم يهرب أحد.

    + أكثر مَن تأثَّر بالموقِف هو السجّان (حافظ السجن).. فقد لمسه الحُبّ الحقيقي في كلام وتصرّفات بولس وسيلا معه.. الحبّ الصادق يظهر في الحرص على مصلحة مَن نُحِبّهم..!

    + كان من تقاليد الشرَف الرومانيّة أنّ السجّان الذي يفشل في ضبط المسجونين الذين تحت سيطرته، فيهرب منهم أحد، لا ينتظر التحقيق والعقوبة بالتعذيب والموت، بل يقضي على نفسه بنفسه.. ولكنّ بولس أنقذ حياة هذا السجّان، ولم يسمح أن تكون معجزة فتح أبواب السجن سببًا في هلاكه.

    + الصليب الثقيل الذي حمله بولس وسيلا، من ظلمٍ وجروح وسجن، تسبّب في أن تولَد أسرة سجّان فيلبّي ميلادًا جديدًا، وتنضمّ لعضويّة جسد المسيح.. فتصير ثاني أسرة مسيحيّة في البلد، بعد أسرة ليديا بائعة الأرجوان..

    + دائمًا تَخرج من الصليب بركات عظيمة.. وكقانون عام: إن وصلت المحبّة لدرجة الموت، فهي قادرة أن تُقيم من الأموات..!

    + انتبَهَ السجّان أنّ بولس وسيلا هما شخصان غير عاديّين، وأحسّ بنعمة الله فيهما.. فكيف يصليان ويسبحان الله في مثل تلك الظروف القاسية..؟!

    + لقد لمسَتْ محبّة المسيح المُشِعّة من بولس وسيلا قلب السجّان، فسألهما عن خلاص نفسه، ويبدو أنّه سمع عنهما أنهما يناديان بطريق الخلاص (أع16: 17).. وهما بالتالي أعلنا له عن الطريق الوحيد للخلاص، وهو الإيمان بالمسيح.. وشملا في كلامهما أهل بيته.. "آمِن بالربّ يسوع المسيح، فتخلُص أنت وأهل بيتك".

    + الربّ يسوع هو محور وقلب الإيمان، وهو طريق الخلاص الذي يحملنا فيه.. وهو كلّ شيء لنا.

    + دائمًا يكون في ذهن الكارز كلّ الأسرة.. الكبار والصغار، النساء والرجال. والأسَر في ذلك الوقت كانت تضمّ عبيدًا أيضًا.

    + يبدو أنّ بيت السجّان كان مجاورًا للسجن، فأخذهما إلى بيته، وهناك كلّماه مع كلّ أسرته بكلمة الرب، وشرحا لهم طريق الخلاص.. فقبلوا الإيمان وتعمّدوا جميعًا.. وهكذا فإنّه لابد من التعليم والوعظ من أجل الإعداد للمعموديّة..

    + كان بولس وسيلا يتكلّمان مع السجّان وأسرته، بينما الدماء لاتزال تزيِّن ملابسهما وجسديهما، فكانت الشهادة لحُبّ يسوع هنا موجودة بالدم مع الكلام.. لذلك كانت شهادة قويّة جدًّا وفعّالة، حتّى آمَن الجميع..!

    + "أخذهما في تلك الساعة من الليل وغسلهما من الجراحات، واعتمد في الحال هو والذين له أجمعين".. واضح هنا أنّه أخذهما إلى مكان به ماء كثير (ربّما نهر).. حيث اغتسلها، وعمّداه هو وأهل بيته، كبارًا وصغارًا، باسم الثالوث القدّوس.

    + أصعدهما (مرّة أخرى) إلى بيته.. وتناولوا الطعام، متهللاً معهم بالانضمام لعضوية الملكوت، والانفتاح على محبّة المسيح الغنيّة.. وهكذا فإنّ الفرح هو ثمرة الإيمان بالله، وقبول عمله في حياتنا..

    + ثمّ نقرأ ما يلي:

    "وَلَمَّا صَارَ النَّهَارُ أَرْسَلَ الْوُلاةُ الْجَلادِينَ قَائِلِينَ: أَطْلِقْ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ. فَأَخْبَرَ حَافِظُ السِّجْنِ بُولُسَ بِهَذا الكَلامِ أَنَّ الْوُلاةَ قَدْ أَرْسَلُوا أَنْ تُطْلَقَا، فَاخْرُجَا الآنَ وَاذْهَبَا بِسَلَامٍ. فَقَالَ لَهُمْ بُولُسُ: ضَرَبُونَا جَهْرًا غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ رَجُلانِ رُومَانِيَّانِ، وَأَلْقَوْنَا فِي السِّجْنِ. أَفَالآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرًّا؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا. فَأَخْبَرَ الْجَلادُونَ الْوُلاةَ بِهَذَا الْكَلامِ، فَاخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا رُومَانِيَّانِ. فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا، وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ الْمَدِينَةِ. فَخَرَجَا مِنَ السِّجْنِ وَدَخَلا عِنْدَ لِيدِيَّةَ، فَأَبْصَرَا الإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ ثُمَّ خَرَجَا" (أع16: 35-40).

    + الجلادون هم مُنفِّذوا الأحكام.

    + القدّيس بولس كان يفكّر في مستقبل الكنيسة في فيلبّي، لذلك حرص أن يبرِّئ نفسه هو وسيلا، لكي يعيش المسيحيّون بسلام في غيابهم، وتنمو الكنيسة داخل تلك المدينة..

    + "ضربونا جهرًا غير مقضيّ علينا، ونحن رجلان رومانيّان، وألقونا في السجن.." كلّ هذه مخالفات كان القدّيس بولس يعرفها من البداية، ولكنّه قبِلَ الصليب بصمتٍ وشكرٍ لله..!

    + "اختشوا لمّا سمعوا أنّهما رومانيّان، فجاءوا وتضرّعوا إليهما.." هنا بولس يريد أن يكون في موقف قوّة، من أجل أن يظلّ الباب مفتوحًا للكرازة في تلك المدينة.. فهو يهمّه بنيان الكنيسة ونموّها، ولا يريد كرامة لنفسه كما يتصوّر البعض.. لقد كان يستخدم امتياز جنسيّته الرومانيّة، ليس ليفتخر بها، بل ليكتسب فُرَصًا إضافيّة للكرازة بالإنجيل.

    + قبِلَ بولس بالخروج من المدينة، وهو في سلام وعلاقة طيّبة مع الحُكّام ومُسامِحًا لهم، لكي يكون الباب مفتوحًا له للعودة.. وهذا بالتأكيد أفضل من تصعيد المشكلة برفع قضيّة ضدّهم.. لقد كان يفعل كلّ شيء لمصلحة الكنيسة، وتَشَبُّهًا بالمسيح المُحب الغافر حتّى لصالبيه..!

    + قبْل مغادرة البلد، اجتمع بولس وسيلا مع المؤمنين في بيت ليديا، الذي كان هو مقرّ الكنيسة في فيلبّي، وتعزيا معًا بكلام الله؛ الذي هو مصدر كلّ عزاء.. ثمّ غادرا المدينة.. وهكذا وضعا بذرة الإيمان في فيلبّي، أوّل مدينة أوروبيّة، عن طريق أسرتين فقط.. وقد نمت هذه البذرة حتّى صارت شجرة عظيمة، تآوَت طيور السماء في أغصانها، بل وصارت بركة للكرازة في كلّ العالم، كما سنرى..!

(يُتَّبَع)

13 / 17