الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (12)

* القدّيس بولس الرسول في أورُبّا لأوّل مرّة:

    + الرحلة الثانية رحلة طويلة، ومملوءة بالأحداث الهامّة.

    + بلاد اليونان بها مقاطعتان كبيرتان؛ المقاطعة الشماليّة وتُسمَّى مكدونية، والجنوبيّة تُسمّى أخائية. وأهم ثلاث مدن في مقاطعة مكدونية الشماليّة هم فيلبّي وتسالونيكي وبيريّة، بينما أهمّ بلدين في مقاطعة أخائية الجنوبيّة هما أثينا وكورنثوس. وقد بدأ القدّيس بولس بالمنطقة الشمالية.

    + نقرأ في سِفر الأعمال ما يلي:

    "فَأَقْلَعْنَا مِنْ تَرُوَاسَ وَتَوَجَّهْنَا بِالاسْتِقَامَةِ إِلَى سَامُوثْرَاكِي، وَفِي الْغَدِ إِلَى نِيَابُولِيسَ. وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى فِيلِبِّي، الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ مِنْ مُقَاطَعَةِ مَكِدُونِيَّةَ، وَهِيَ كُولُونِيَّةُ. فَأَقَمْنَا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَيَّامًا. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ خَرَجْنَا إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ نَهْرٍ، حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةٌ، فَجَلَسْنَا وَكُنَّا نُكَلِّمُ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي اجْتَمَعْنَ. فَكَانَتْ تَسْمَعُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا لِيدِيَّةُ، بَيَّاعَةُ أُرْجُوَانٍ مِنْ مَدِينَةِ ثَيَاتِيرَا، مُتَعَبِّدَةٌ لِلهِ، فَفَتَحَ الرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى مَا كَانَ يَقُولُهُ بُولُسُ. فَلَمَّا اعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا طَلَبَتْ قَائِلَةً: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ بِالرَّبِّ، فَادْخُلُوا بَيْتِي وَامْكُثُوا. فَأَلْزَمَتْنَا" (أع16: 11-15).

    + نلاحظ الحديث بصيغة المتكلّم الجمع، وهذا يعني أنّ ق. لوقا كاتب سفر الأعمال مرافق لهم.. بمعنى أنّ القافلة الكرازيّة كانت تشمل أربعة خدّام على الأقل: بولس وسيلا وتيموثاوس ولوقا.

    + بدأوا الكرازة في مدينة مركزيّة في مقاطعة مكدونية، وهي مدينة فيلِبّي.. وقد تسمَّت هكذا على اسم الإمبراطور فيليب، والد الإسكندر الأكبر المقدوني، والذي أسّسها عام 357 قبل الميلاد.

    + مدينة كولونيّة، أي تحت الرعاية الرومانيّة مباشرةً، وتسري عليها القوانين التي تسري في روما نفسها، وكأنّ فيلبّي روما مُصغَّرة.. ولذلك كان لسكّانِها امتيازات وحقوق رومانيّة، ليست مُتاحة لباقي البلاد. مثل عدم الجلد، ولا يتمّ القبض عليهم إلاّ باشتراطات خاصّة، كما يمكنهم أن يرفعوا شكواهم إلى الإمبراطور..

    + لم يكُن في فيلِبّي مجمع يهودي، لكي يبدأ الرسل الكرازة عن طريقه، كالمعتاد.. فأقاموا أيّامًا يحاولون إيجاد مدخل للتبشير..

    + البداية لم تكُن سهلة على الإطلاق.. ولكن الصلاة تفتح الأبواب المغلقة، وتفتح طرقًا جديدة غير تقليديّة..

    + كانوا يجتمعون يوميًا للصلاة عند نهرٍ، ويكرزون لمَن يتوقّفون عندهم.. وبهذه الطريقة اصطاد الروح القدس ليديا بائعة الأرجوان وأسرتها في شباك الملكوت، لتكون أول من يؤمن ويعتمد بمدينة فيلبّي، بل في كلّ أورُبّا.. وغالبًا المعموديّة تمّت في النهر، وشملت ليديا وكلّ أسرتها، كبارًا وصغارًا.

    + نلاحظ دائمًا أنّ الإيمان تتبعه المعموديّة مباشَرةً.. فالإيمان الشفوي وحده لا يكفي، بل يلزم معه الغرس والتطعيم في جسد المسيح بالمعموديّة، كي ننال البنوّة لله، ونصير مسكنًا لروحه القدُّوس.

    + ثياتيرا هي مدينة في آسيا الصغرى، وهي المذكورة في سفر الرؤيا، وكانت تربطها بفيلبّي علاقات تجاريّة كبيرة.

    + واضح ّأنه الفريق الكرازي لم يكُن له مأوى أو مسكن، لذلك أخذتهم ليديا ليُقيموا في بيتها.. لقد انتبهت أنّه لم يكُن لهم مكان مناسب للإقامة، لذلك أصرّت على استضافتهم.

    + ثمّ نقرأ ما يلي:

    "وَحَدَثَ بَيْنَمَا كُنَّا ذَاهِبِينَ إِلَى الصَّلاةِ، أَنَّ جَارِيَةً بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ اسْتَقْبَلَتْنَا. وَكَانَتْ تُكْسِبُ مَوَالِيَهَا مَكْسَبًا كَثِيرًا بِعِرَافَتِهَا. هَذِهِ اتَّبَعَتْ بُولُسَ وَإِيَّانَا وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: هَؤُلَاءِ النَّاسُ هُمْ عَبِيدُ اللهِ الْعَلِيِّ، الَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ الْخَلاصِ. وَكَانَتْ تَفْعَلُ هَذَا أَيَّامًا كَثِيرَةً. فَضَجِرَ بُولُسُ وَالْتَفَتَ إِلَى الرُّوحِ وَقَالَ: أَنَا آمُرُكَ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا. فَخَرَجَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ" (أع16: 16-18).

    + الصلاة هي عمل المؤمنين والكارزين الأساسي، وهي مصدر قوّتهم.. ويبدو أنّه قد صار لهم مكان ثابت عند النهر، مخصّص للصلاة الجماعيّة..

    + الشيطان يحاول إعاقة الكرازة بكلّ الصور الممكنة، لكنّ الله يحوّل كلّ الأمور للخير..

    + قضى الرسل أيّامًا كثيرة في الصلاة، بدون ثمر ظاهر تقريبًا.. لكنّ الحقيقة أنّه لا شيء يضيع من صلواتنا أبدًا، بل لابد أنّ تأتي الصلوات بثمار، وسيفتح الله الأبواب المُغلقة بطريقة قد لا تخطر على بالنا..!

    + الشياطين يؤمنون بالله ويقشعرّون.. ويعترفون بالمسيح، وبالحقّ الذي يكرز به أولاده، وبأنّ طريقهُ هو طريق الخلاص.. ولكنّنا لا ننتظر شهادتهم..!

    + الشيّاطين يجلبون بعض المكاسب المادّيّة لمَن يعملون معهم.. لكنّ الظلام دائمًا أضعف من النور، ويتبدّد في لحظة بظهور النور.. وتنتهي كلّ المكاسب إلى خسارة فادحة من جميع النواحي.

    + ضَجَر بولس.. ربّما من كثرة سماع صوت الشيطان، وربّما لأنّ الفتاة العرّافة كانت تقول كلامها بطريقة فيها سخرية أو استهزاء أو خلاعة..!

    + الله منحنا سلطانًا جبّارًا على طرد العدو وسحقه.. "كلّ مَن يقول ياربي يسوع، كَمَن بيده سيف يصرع العدو" (إبصاليّة الإثنين).

    + ثمّ نقرأ ما يلي:

    "فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ، أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلا وَجَرُّوهُمَا إِلَى السُّوقِ إِلَى الْحُكَّامِ. وَإِذْ أَتَوْا بِهِمَا إِلَى الْوُلاةِ، قَالُوا: هَذَانِ الرَّجُلَانِ يُبَلْبِلانِ مَدِينَتَنَا، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ، وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلا نَعْمَلَ بِهَا، إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ. فَقَامَ الْجَمْعُ مَعًا عَلَيْهِمَا، وَمَزَّقَ الْوُلاةُ ثِيَابَهُمَا وَأَمَرُوا أَنْ يُضْرَبَا بِالْعِصِيِّ. فَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً وَأَلْقُوهُمَا فِي السِّجْنِ، وَأَوْصَوْا حَافِظَ السِّجْنِ أَنْ يَحْرُسَهُمَا بِضَبْطٍ. وَهُوَ إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هَذِهِ، أَلْقَاهُمَا فِي السِّجْنِ الدَّاخِلِيِّ، وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا فِي الْمِقْطَرَةِ" (أع16: 19-24).

    + واضح أن الشيطان حرّك أولئك الرجال الذين كانوا ينتفعون بالفتاة، إلى الانتقام من بولس وسيلا.

    + كانت الكرازة أصلاً لا تسير بسرعة، فلم يؤمن من فيلبّي بعد مُدّة طويلة سوى ليديا وأسرتها.. ثم حدث ما يُمكِن اعتباره تعطيلاً إضافيًّا للكرازة والخدمة، بظهور مشكلة هذه الفتاة العَرّافة.. ولكنّ الله في النهاية حوّل الأمور للخير، فلا يجب أن نقلق أو نستسلم للفشل، مهما حدث..!

    + يبدو أنّه كان هناك تعصُّب كبير ضدّ اليهود في فيلبّي.. وقد كانت فيلبّي مدينة ذات طابع خاصّ، تسير بقوانين روما، ولها امتيازات روما أيضًا.. فكان شعبها يتعالون على بقيّة المدن، ويفتخرون بأنّهم رومانيّون.

    + تَعَرّض بولس وسيلا ظُلمًا لإهانة كبيرة، بالتعرية والضرب والسجن.. واحتملا من أجل المسيح في صبر وصمت، دون أن يدافِعا عن نفسيهما، أو يُعلِنا عن حقيقة جنسيّتهما الرومانيّة.. لقد قبلا الصليب في هدوء وشكرٍ وتسبيح..!

    + هل هذه هي النهاية؟ بالتأكيد لا. الصليب هو مُجرّد محطّة في طريق الحياة الأبديّة، ويتبعه دائمًا قيامة ومجد..!

(يُتَّبَع)

12 / 17