الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (10)

* الرحلة الكرازيّة الثانية:

    + بدأت هذه الرحلة حوالي عام 50/51م، واستغرقت حوالي ثلاث سنوات، حتّى عام 53/54م.. ويمكن تلخيص خطّ السير الخاصّ بها في عشر محطّات، كالتالي:

  1- من أنطاكية سورية إلى لسترة.. وهناك انضمّ تيموثاوس للخدمة.

  2- من لسترة إلى ترواس، في أقصى غرب آسيا الصغرى.

  3- من ترواس إلى فيلبّي، وهي أوّل مدينة في أوربّا يتمّ الكرازة بها.

  4- من فيلبّي إلى تسالونيكي، وهي غرب فيلبّي.

  5- من تسالونيكي إلى بيريّه.. وكلّها مدن في شمال اليونان (مقاطعة مكدونية).

  6- من بيريّه إلى أثينا، وهي في جنوب اليونان (مقاطعة أخائية).

  7- من أثينا إلى كورنثوس، وهي غرب أثينا.

  8- من كورنثوس إلى أفسس، بغرب آسيا الصغرى.

  9- من أفسس إلى أورشليم عبر قيصريّة.

  10- من أورشليم إلى أنطاكية، المركز الذي انطلق منه في البداية.

    + نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:

    "ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ قَالَ بُولُسُ لِبَرْنَابَا: لِنَرْجِعْ وَنَفْتَقِدْ إِخْوَتَنَا فِي كُلِّ مَدِينَةٍ نَادَيْنَا فِيهَا بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ، كَيْفَ هُمْ. فَأَشَارَ بَرْنَابَا أَنْ يَأْخُذَا مَعَهُمَا أَيْضًا يُوحَنَّا الَّذِي يُدْعَى مَرْقُسَ، وَأَمَّا بُولُسُ فَكَانَ يَسْتَحْسِنُ أَنَّ الَّذِي فَارَقَهُمَا مِنْ بَمْفِيلِيَّةَ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمَا لِلْعَمَلِ، لَا يَأْخُذَانِهِ مَعَهُمَا. فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ حَتَّى فَارَقَ أَحَدُهُمَا ٱلْآخَرَ. وَبَرْنَابَا أَخَذَ مَرْقُسَ وَسَافَرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى قُبْرُسَ. وَأَمَّا بُولُسُ فَٱخْتَارَ سِيلَا وَخَرَجَ مُسْتَوْدَعًا مِنَ الإِخْوَةِ إِلَى نِعْمَةِ ٱللهِ. فَٱجْتَازَ فِي سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ يُشَدِّدُ ٱلْكَنَائِسَ" (أع15: 36-41)

    + واضح أن القدّيس بولس الرسول لا يهدأ، ولا يملّ من الخدمة ونشر الكرازة بخلاص المسيح، على الرغم من التحدّيات الصعبة التي يواجهها.. ظروف صحّيّة معَوِّقة - مقاومة وتهديد لحياته من اليهود - مضايقات من دُعاة التهوُّد - مصاعب من جهة اختلاف الآراء بين الخُدّام..

    + قصّة اختلاف بولس وبرنابا حول اصطحاب القدّيس مرقس، تحدّثنا عنها بالتفصيل من قبل، ونتذكّر فيها الآتي:

   1- توسَّم برنابا في القدّيس مرقس خادمًا واعدًا، كما توسَّم في شاول الطرسوسي من قبل.. وخاصّةً أنّ يوحنّا الملقَّب مرقس كان يعرف أكثر من لغة كاليونانيّة واللاتينيّة بالإضافة إلى العِبريّة.. فدعاه أن يذهب معهم لأنطاكية، ويخدم مع برنابا وبولس هناك، ثمّ ذهب معهم في رحلتهم الكرازيّة الأولى.

   2- فارقهما القديس مرقس، ورجع إلى أورشليم (أع13:13).. لأسباب غير مؤكَّدة حتّى الآن.. وهذا لم يستحسنه القدّيس بولس.

   3- اختلف الرسولان برنابا وبولس على اصطحاب القديس مرقس معهما في رحلتهما الكرازيّة الثانية.. واحتدّ الاختلاف، حتّى أنّهما تفارقا.. وانتهى الأمر بتكوين فريقين تقاسما منطقتيّ الخدمة؛ قبرس وآسيا الصغرى..

   4- هكذا نرى أنّه آلت الأمور إلى انتشار الإنجيل، واتّساع الخدمة، وضمّ المزيد من الخدّام، مثل سيلا..!

   5- نلاحظ أنّ الاختلاف لم يتسبّب في عداوة أو تحزُّب أو مرارة في قلب الخُدّام، فهذه أمور دخيلة على المسيحيّين.. لأنّهم جميعًا مولودون من الله، وأعضاء في جسد واحد، ويتغذّون بروح واحد، ولهم هدف واحد هو تمجيد الله الثالوثي، ونموّ مملكته السماويّة في القلوب..

   6- سنقرأ بعد هذه الحادثة بأكثر من عشر سنوات، أنّ القدّيس بولس أثناء سجنه الأوّل بروما، طلب القدّيس مرقس ليساعده في الخدمة الممتدّة في بلاد إيطاليا.. ولم يرفض مارمرقس الطلب، بل بعد أنّ أسّس الكنيسة في مصر، ذهب باتّضاع ومحبّة وكرز مع القدّيس بولس، وأسّس الكنائس في أكويلا وفينيسيا بإيطاليا.. ويَذكُرُه القدّيس بولس ضمن مجموعة الخدّام الذين معه في رسالته إلى فليمون (فل24)، كما أنّه أيضًا يَذكُرُه بالخير في آخر رسائله قبيل استشهاده في سجنه الثاني، ويصفه بأنّه نافع لي للخدمة (2تي4: 11).

   7- هكذا نرى أنّه يمكننا أن نختلف، ولكن نظلّ نخدِم المسيح في صبر ووداعة..

  - لا مانع أن نختلف، ولكنّنا نحرص على حفظ المحبّة الأخويّة، والاحترام بعضنا لبعض..

  - لا مانع أن نختلف، ولكنّنا في نفس الوقت نؤمن أنّنا لسنا معصومين من الخطأ، والرأي الآخَر قد يكون به الكثير من الصواب، وهو بالتأكيد مفيد لنا..

  - لا مانع أن نختلف، ولكنّ الكنيسة تتّسع لنا جميعًا، كلّ واحد في مجاله.. ولا يجب أن نستبعد أو نعزل أحدًا، إلاّ المُخَرّبين إذا تواجدوا..!

  - لا مانع أن نختلف، ولكنّنا سنعكف على كلّ ما هو للسلام وما هو للبنيان بعضنا لبعض (رو14: 19)..

  - لا مانع أن نختلف، ولكن يلزمنا أن نحفظ وحدانيّة القلب، وننكر ذواتنا، ونتعاون لنمو الكنيسة، ولتمجيد اسم الله..

    + نلاحظ أنّ برنابا تقليديّ في شخصيّته، هادئ ويتمتّع بروح أبويّة، ويحتضن الطاقات الصغيرة حتّى تنضج، ويعطي الفرصة لنمو المواهب الجديدة.. أمّا بولس فهو غير تقليدي، خلاّق، ناري، صاحب عقليّة جبّارة، كثيرًا ما يفكِّر خارج الصندوق، دائم البحث والدراسة، ولديه طموح غير محدود بخصوص نمو ملكوت الله.. ولكنّه في نفس الوقت يحاول أيضًا الحفاظ بقدر طاقته على العلاقات السلاميّة مع الجميع.. حتّى أنّ القدّيس بطرس يصفه في أواخر حياته بعبارة "أخونا الحبيب بولس" (2بط3: 15).

    + "لنرجع ونفتقد إخوتنا".. لم يقُل أبناءنا.. لأنّ العلاقة بين المؤمنين هي علاقة أُخُوّة في المسيح قبل كلّ شيء، أكثر من علاقة آباء بأبناء أو خُدّام بمخدومين.

    + "حصل بينهما مشاجرة".. واردٌ أن يختلف الخُدّام، ولكنّهم لا يتوقّفون عن العمل الروحي والكرازي، بل فقط يمكن أن يُعيدوا تشكيل مجموعات الخدمة.. وقد يكون من المفيد أيضًا تغيير مواقع الخدمة.

    + تصرَّفَ القدّيس بولس بأدب شديد، عندما ترك للقدّيس برنابا الأسبقيّة في التحرُّك، واختيار خطّ السير.. فكان في سلام مع الجميع، حتّى لو اختلف في وجهة النظر مع أحد زملائه.

    + برنابا تحرّك أوّلاً في نفس خطّ سير الرحلة الكرازيّة الأولى، فرأى بولس أن يسير في خطّ آخَر، حتّى لا يُزاحمه.. وقد عانى في البداية لمدّة طويلة، حتّى فتح له الربّ بابًا لبداية خدمة أورُبّا.

    + نلاحظ أنّ قافلة الخدمة الكرازيّة لابد أن تتكوّن من اثنين من الخدّام (على الأقل)، بحسب النظام الذي وضعه السيّد المسيح مع تلاميذه.

    + "أمّا بولس فاختار سيلا، وخرج مُستودَعًا من الإخوة إلى نعمة الله".. من الواضح أنّ بولس لم يتسرَّع في التحرُّك، بل صبر وصلّى قبل أن يختار سيلا لمرافقته.. ثمّ أخذ بركة الكنيسة معه.. وقد كان ترتيبًا جميلاً من الله أن يتواجَد سيلا في ذلك الوقت بأنطاكية.. فالله دائمًا يهتمّ بتوفير فعله لحصاده، وعلينا فقط أن نطلب في صلواتنا من أجل هذا الأمر.

نتابع خطوات الرحلة في المقال القادم بنعمة المسيح،،

(يُتَّبَع)

10 / 17