الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (9)

تابع: مجمع أورشليم:

* حديث القدّيس بطرس الرسول:

    + نقرأ في سِفر أعمال الرسل ما يلي:

    "فَٱجْتَمَعَ ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ لِيَنْظُرُوا فِي هَذَا ٱلْأَمْرِ. فَبَعْدَ مَا حَصَلَتْ مُبَاحَثَةٌ كَثِيرَةٌ قَامَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْإِخْوَةُ، أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَدِيمَةٍ ٱخْتَارَ ٱللهُ بَيْنَنَا أَنَّهُ بِفَمِي يَسْمَعُ ٱلْأُمَمُ كَلِمَةَ ٱلْإِنْجِيلِ وَيُؤْمِنُونَ. وَٱللهُ ٱلْعَارِفُ ٱلْقُلُوبَ، شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِيًا لَهُمُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضًا. وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ، إِذْ طَهَّرَ بِٱلْإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ. فَالْآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلَامِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلَا نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ لَكِنْ بِنِعْمَةِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضًا.

    فَسَكَتَ ٱلْجُمْهُورُ كُلُّهُ. وَكَانُوا يَسْمَعُونَ بَرْنَابَا وَبُولُسَ يُحَدِّثَانِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ ٱللهُ مِنَ ٱلْآيَاتِ وَٱلْعَجَائِبِ فِي ٱلْأُمَمِ بِوَاسِطَتِهِمْ" (أع15: 6-12).

    + هنا نرى موقفًا قويًّا جدًّا للقدّيس بطرس في الشهادة للحقّ، بعيدًا عن المجاملة أو التحيّز لأشخاص بعينهم.. ومن الواضح أنّه يتكلّم بقيادة وإرشاد الروح القدس.

    + كان القدّيس بطرس واقعيًّا في كلامه؛ أنّ نير الناموس لم نستطِع نحن ولا آباؤنا أن نحمله.. كما أكّد أنّ الروح القدس قد أُعطِي للأمم كما أُعطِيَ للرسل، وهذا ما شهده بنفسه في حادثة إيمان كُرنيليوس.. كما أشار إلى أنّ الله لم يميِّز بين اليهود والأمم، من جهة قبول الإيمان به، والخلاص بواسطته.. فإن كان هذا هو عمل الله، فلا ينبغي مقاومته..!

    + كلام القدّيس بطرس أعطى الفرصة لبرنابا وبولس أن يتكلّما بحرّية أكبر عن كرازتهما للأمم، وكيف عمل الله معهما لقبول الأمم في الإيمان، بدون الدخول في طريق الناموس أوّلاً.. وكان كلامهما مؤثِّرًا في الحاضرين، إذ ينقل إليهم خبرات صادقة عن عمل الروح القدس، الممتدّ في كلّ أنحاء العالم..

    + نلاحظ أنّ آباء الكنيسة يساندون بعضهم بعضًا، لأنّهم يشهدون فقط للحقّ، ومتجرّدون تمامًا من الشخصنة والذّاتيّة والمجاملة والتحيّز والتحزُّب.. تلك الأمور التي يمكن أن تَقسِم الكنيسة تمامًا، وتشوّش على الشهادة للحقّ، بل تشوِّه الحقّ نفسه..!

    + من الجميل أنّنا نصلّي كلّ ليلة في المزمور الكبير، في صلاة نصف الليل: لا تنزع من فمي قول الحقّ، لأنّي توكّلت على أحكامك (مز119: 43).

* حديث القدّيس يعقوب الرسول:

    + نقرأ ما يلي:

    "وَبَعْدَمَا سَكَتَا أَجَابَ يَعْقُوبُ قَائِلًا: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْإِخْوَةُ، ٱسْمَعُونِي. سِمْعَانُ قَدْ أَخْبَرَ كَيْفَ ٱفْتَقَدَ ٱللهُ أَوَّلًا ٱلْأُمَمَ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْبًا عَلَى ٱسْمِهِ. وَهَذَا تُوافِقُهُ أَقْوَالُ ٱلْأَنْبِيَاءِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ (عاموس9: 11-12): سَأَرْجِعُ بَعْدَ هَذَا وَأَبْنِي أَيْضًا خَيْمَةَ دَاوُدَ ٱلسَّاقِطَةَ، وَأَبْنِي أَيْضًا رَدْمَهَا وَأُقِيمُهَا ثَانِيَةً، لِكَيْ يَطْلُبَ ٱلْبَاقُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلرَّبَّ، وَجَمِيعُ ٱلْأُمَمِ ٱلَّذِينَ دُعِيَ ٱسْمِي عَلَيْهِمْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ هَذَا كُلَّهُ. مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلْأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ. لِذَلِكَ أَنَا أَرَى أَنْ لَا يُثَقَّلَ عَلَى ٱلرَّاجِعِينَ إِلَى ٱللهِ مِنَ ٱلْأُمَمِ، بَلْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ نَجَاسَاتِ ٱلْأَصْنَامِ، وَٱلزِّنَا، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلدَّمِ. لِأَنَّ مُوسَى مُنْذُ أَجْيَالٍ قَدِيمَةٍ، لَهُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مَنْ يَكْرِزُ بِهِ، إِذْ يُقْرَأُ فِي ٱلْمَجَامِعِ كُلَّ سَبْتٍ" (أع15: 13-21).

    + نلاحظ أنّ الجميع يأخذون فرصتهم في الكلام، بكلّ نظام.. ويؤكِّدون على كلام بعضهم البعض، بروح واحد..

    + من الطريف أنّ يعقوب يسمِّي بطرس "سمعان"، فهذا هو اسمه القديم، الذي اعتاد أن يخاطبه به منذ أكثر من عشرين عامًا، فلم يُغيِّره..!

    + يؤسِّس القدّيس يعقوب لكلامه من الأسفار المقدّسة، ومن أقوال الأنبياء.. ثمّ يعرض رأيه في إيجاز ووضوح.

    + لابد دائمًا من سند واضح وقوي من الكتاب المقدّس، لأيّ قرار كرازي أو تنظيمي أو رعوي أو روحي في الكنيسة.

* قرار المجمع:

    + نقرأ ما يلي:

    "حِينَئِذٍ رَأَى ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ مَعَ كُلِّ ٱلْكَنِيسَةِ أَنْ يَخْتَارُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَيُرْسِلُوهُمَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ مَعَ بُولُسَ وَبَرْنَابَا: يَهُوذَا ٱلْمُلَقَّبَ بَرْسَابَا، وَسِيلَا، رَجُلَيْنِ مُتَقَدِّمَيْنِ فِي ٱلْإِخْوَةِ. وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ هَكَذَا:

    اَلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ وَٱلْإِخْوَةُ يُهْدُونَ سَلَامًا إِلَى ٱلْإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْأُمَمِ فِي أَنْطَاكِيَةَ وَسُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ: إِذْ قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ أُنَاسًا خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا أَزْعَجُوكُمْ بِأَقْوَالٍ، مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ، وَقَائِلِينَ أَنْ تَخْتَتِنُوا وَتَحْفَظُوا ٱلنَّامُوسَ، ٱلَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ. رَأَيْنَا وَقَدْ صِرْنَا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَنْ نَخْتَارَ رَجُلَيْنِ وَنُرْسِلَهُمَا إِلَيْكُمْ مَعَ حَبِيبَيْنَا بَرْنَابَا وَبُولُسَ، رَجُلَيْنِ قَدْ بَذَلَا نَفْسَيْهِمَا لِأَجْلِ ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. فَقَدْ أَرْسَلْنَا يَهُوذَا وَسِيلَا، وَهُمَا يُخْبِرَانِكُمْ بِنَفْسِ ٱلْأُمُورِ شِفَاهًا. لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ لَا نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلًا أَكْثَرَ، غَيْرَ هَذِهِ ٱلْأَشْيَاءِ ٱلْوَاجِبَةِ: أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، وَعَنِ ٱلدَّمِ، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلزِّنَا، ٱلَّتِي إِنْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ. كُونُوا مُعَافَيْنَ" (أع15: 22-29).

    + نلاحظ أنّ قرار المجمع واضح وموجَز، وأنّه مُرسَل للكنائس كتابةً، مع وفد من المجمع مكوّن من أربعة أشخاص، من عِدّة جهات، لشرح القرار شفاهةً أيضًا.. هكذا يتمّ تدعيم القرار بأشخاص وبرسالة مكتوبة.

    + كما نلاحظ ملاحظة هامّة جدًّا، وهي أنّ القرار تمّ اتخاذه بنفس واحدة بواسطة الكنيسة كلّها، الرسل والقسوس والإخوة، أيّ كلّ المؤمنين من إكليروس وشعب، فلم تستأثِر أيّة فئة باتخاذ القرار منفردةً.. ولكن قبل كلّ شيء تقول صيغة القرار: "قد رأى الروح القدس ونحن".. وهذا يؤكِّد أنّ الروح القدس في موقع القيادة داخل الكنيسة.

    + القرار يحمل إشارة لسبب المشكلة، ويصفها بالمُزعِجة، وأنّ فيها لونًا من الارتداد عن الإيمان.. كما يصِف من صنعوها بأنّهم كانوا يتكلّمون من أنفسهم وليس بحسب تعاليم وأوامر الرسل، أي ليس بحسب التسليم الرسولي.. في حين أنّه ينبغي أن يكون في الكنيسة قيادة موحّدَة، وتعليم موحَّد بخصوص القضايا الرئيسيّة..

    + يمتدح القرار خدمة القدّيسَين برنابا وبولس، ويصفهما بالحبيبين اللذين يبذلان نفسيهما لأجل اسم المسيح.. كما أنّ الرسل في أورشليم اعتمدوا بعد هذا المجمع بولس وبرنابا كرسولين للأمم، وأعطوهما يمين الشركة، أي أبرموا معهما اتفاقيّة للخدمة داخل شركة الكنيسة والإيمان المشترك، ملتمسِين فقط ألاّ يَنسيا الاهتمام بفقراء أورشليم، وهو ما كانوا يعتنون به دون توصية (غل2: 6-10).

    + جوهر القرار هو التركيز على الإيمان بالمسيح المخلّص، مع الانتباه لعدم المشاركة في العبادات الوثنيّة أو النجاسات المنتشرة في الأمم.. إذ لا شركة للنور مع الظلمة (2كو6)..

    + مجمع أورشليم هو مجمع هامّ جدًّا في تاريخ الكنيسة والمسيحيّة الأولى، لأنّ على أساسه تَحَدّد وضع الكرازة والمؤمنين، وتسليم الإيمان، والتقليد الكنسي بوجه عام.. وتمّ فيه إسقاط كافّة الفرائض الناموسيّة عن التعليم المسيحي.

* تبليغ القرار للكنائس في كلّ مكان:

    + ثمّ نقرأ ما يلي:

    "فَهَؤُلَاءِ لَمَّا أُطْلِقُوا جَاءُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَجَمَعُوا ٱلْجُمْهُورَ وَدَفَعُوا ٱلرِّسَالَةَ. فَلَمَّا قَرَأُوهَا فَرِحُوا لِسَبَبِ ٱلتَّعْزِيَةِ. وَيَهُوذَا وَسِيلَا، إِذْ كَانَا هُمَا أَيْضًا نَبِيَّيْنِ، وَعَظَا ٱلْإِخْوَةَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ وَشَدَّدَاهُمْ. ثُمَّ بَعْدَ مَا صَرَفَا زَمَانًا أُطْلِقَا بِسَلَامٍ مِنَ ٱلْإِخْوَةِ إِلَى ٱلرُّسُلِ. وَلَكِنَّ سِيلَا رَأَى أَنْ يَلْبَثَ هُنَاكَ. أَمَّا بُولُسُ وَبَرْنَابَا فَأَقَامَا فِي أَنْطَاكِيَةَ يُعَلِّمَانِ وَيُبَشِّرَانِ مَعَ آخَرِينَ كَثِيرِينَ أَيْضًا بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ" (أع15: 30-35).

    + ما أعجب عمل الله في حياة الإنسان.. فقبل حوالي 15 سنة خرج شاول الطرسوسي من أورشليم إلى دمشق حاملاً رسائل من رؤساء الكهنة من أجل تعذيب المسيحيّين وسجنهم والتنكيل بهم.. وها هو الآن يخرج من أورشليم حاملاً البشارة المفرحة إلى كلّ الأمم الوثنيّين ببيان من الكنيسة بقبولهم في الإيمان، وعدم التثقيل عليهم بأيّ طقوس يهوديّة، مهما كانت.. لك المجد يارب..!

    + بيان الكنيسة الرسمي تسبّب في فرح وتعزية كبيرة لجمهور المسيحيّين.. فهذا يعني تمتّعهم بالإيمان بدون أحمال وعوائق ناموسيّة، تمّ تجاوزها في المسيح..

    + كان مُهِمًّا أن يتواجد خُدّام من أورشليم مع بولس وبرنابا، لتوضيح وتدعيم القرار، مع القيام بالوعظ البنّاء..

    + واضح أنّ الكنيسة في أنطاكية كانت متنامية جدًّا، وكارزة أيضًا.. كما كانت متمتّعة بمناخ جميل، يغمره السلام والمحبّة والفرح..

    + في الحلقة القادمة نتحدّث بنعمة الله عن الرحلة الكرازيّة الثانية للقدّيس بولس الرسول.

(يُتَّبَع)

9 / 17