الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (8)

* تحدي جديد للكنيسة:

    + بعد عودة القدّيسين بولس وبرنابا إلى أنطاكية من رحلتهما الكرازيّة الأولى، وقد لمسا بأنفسهما أن الله فتح أبواب الإيمان للأمم، وانضمّ كثيرون لعضوية جسد المسيح، من غير اليهود.. بدأت تظهر مشكلة كبيرة وصعبة، وهي مشكلة "التهوّد"، وتتلخّص فكرتها في أنّه يلزم قبل الدخول في الإيمان بالمسيح، العبور أوّلاً على الديانة اليهوديّة، وتتميم كلّ طقوسها، مِن ختان وغسلات وتطهيرات وحفظ للسبوت وخلافه.. وإلاّ يُعتَبَر المؤمن المسيحي الجديد ناقصًا في إيمانه، وفي درجة أقلّ من المسيحي الذي من أصل يهودي..!

    + بدأت هذه المشكلة تضغط على الكنيسة بشدّة، حتّى اضطرّت إلى عقد مجمع كبير في أورشليم لمناقشة هذه القضيّة الهامة..

* مجمع أورشليم:

    + نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:

    "وَٱنْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ ٱلْإِخْوَةَ أَنَّهُ: إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى، لَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا. فَلَمَّا حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ وَمُبَاحَثَةٌ لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ مَعَهُمْ، رَتَّبُوا أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى ٱلرُّسُلِ وَٱلْمَشَايِخِ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ ٱلْمَسْأَلَةِ. فَهَؤُلَاءِ بَعْدَ مَا شَيَّعَتْهُمُ ٱلْكَنِيسَةُ ٱجْتَازُوا فِي فِينِيقِيَةَ وَٱلسَّامِرَةِ يُخْبِرُونَهُمْ بِرُجُوعِ ٱلْأُمَمِ، وَكَانُوا يُسَبِّبُونَ سُرُورًا عَظِيمًا لِجَمِيعِ ٱلْإِخْوَةِ. وَلَمَّا حَضَرُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَتْهُمُ ٱلْكَنِيسَةُ وَٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللهُ مَعَهُمْ. وَلَكِنْ قَامَ أُنَاسٌ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا، وَيُوصَوْا بِأَنْ يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى" (أع15: 1-5).

    + لقد بدأت مشكلة "التهوُّد" من أشخاص مؤمنين بالمسيح من أصل يهودي فرّيسي، وقد ذهبوا دون عِلم الرسل من أورشليم إلى أنطاكية للتعليم بأهمّيّة التهوُّد، ولكن تصدّى لهم بولس وبرنابا، ودارت بينهم مباحثات كبيرة.. عمومًا مثل هذه الحركات تأتي غالبًا من المتشدّدين، والمهتمّين بالأمور الشكليّة دون فهم المعنى والجوهر.

    + النجاح له ضريبة يدفعها الإنسان.. والذين يتقدّمون الصفوف يتعرّضون دائمًا لهجوم من البعض، نتيجة الغيرة أو الجهل أو الخوف من التغيير.. وقد كان بولس وبرنابا متقدِّمَين للصفوف في الكرازة للأمم، فتعرّضا للهجوم من بعض المؤمنين الذين لايزالوا متعصّبين للتقاليد اليهوديّة..!

    + من الخطأ التمسُّك بالتقاليد الناموسيّة القديمة، مع الإيمان بالمسيح المُخَلِّص.. لأنّ طقوس العهد القديم كانت مجرّد الظلّ الذي يشير إلى الحقيقة التي هي المسيح.. فنحن ينبغي أن نتمسَّك بجسد الحقيقة وليس بظلّها (كو2: 17)..!

    + المتعصّبون موجودون في كلّ زمان ومكان.. أحيانًا يكون بعضهم متكبّرين متعالين، وبعضهم سجناء للتراث والحَرْف، وعيونهم غير مفتوحة على عمق الفهم بحسب الروح.. هؤلاء جميعًا يتسبّبون في متاعب كثيرة للكنيسة، ويلزم تحجيمهم وتقليل تأثيرهم بقدر الإمكان..

    + عندما نقرأ ما جاء في الرسائل إلى رومية وغلاطية والعبرانيّين وكورنثوس وغيرها، نفهم لماذا كان القدّيس بولس يصرّ على التبرير والخلاص بالإيمان بالمسيح، وما يتبعه من معموديّة وحياة جديدة فيه، وليس التبرير بأعمال الناموس.

    + نلاحظ أنّه حتى ذلك الوقت لم تكُن هناك كتابات رسميّة لأي سِفر من أسفار العهد الجديد.. بل كان هناك فقط التسليم الشفوي والحياة المُعاشة في الكنيسة، ودراسة أسفار العهد القديم بعيون الروح القدس، وكما شرحها الربّ يسوع للرسل.

    + التهوّد كان رِدّة خطيرة للإيمان المسيحي.. وبالإضافة إلى أنّه يخالف الحقّ، فهو أيضًا سيكون حجر عثرة أمام كلّ الأمم المدعوّين للإيمان بالمسيح المخلّص.. وقد انتبه لذلك جيّدًا القدّيس بولس، فأعطى الموضوع حجمًا كبيرًا وأصرّ على تصعيده إلى أعلى مستوى، وكافح ضدّه بكلّ قوّته.

    + كان القدّيس بولس قويًّا واضحًا مُثابرًا، لا يتهاون في مواجهة الأفكار التي ليست حسب الحقّ، بل يكشفها ويفضحها ويقاومها بكلّ ما لديه من أدوات.. ولكنّه لم يكُن متهوِّرًا ولا فرديًّا في التحرّك.

    + العجيب أنّ بولس الفرّيسي الذي كان متشدّدًا أصوليًّا، قد انفتح ذهنه وقلبه، مشتاقًا أن يؤمن العالم كلّه بالمسيح المخلّص، بلا أيّ عوائق.. لقد كان يظنّ أوّلاً أنّ الله سيستخدمه في الكرازة لليهود، لسبب خلفيّته الكبيرة في معرفة الناموس، لكنّه مع الوقت اكتشف أنّ الله يريده أن يكون رسول الأمم الرئيسي في الكنيسة الأولى.. وقد نجح جدًّا في كرازته للأمم، بل صارت تعاليمه مصدر تغذيّة روحيّة في كلّ مكان، ولجميع الأجيال حتّى الآن..!

    + كانت زيارة أورشليم هذه، هي الثالثة للقدّيس بولس بعد إيمانه بالمسيح، وهي التي أشار لها في رسالة غلاطية (غل2: 1)، أنّه صعد لأورشليم بعد أربعة عشرة سنة من زيارته الأولى..

    + كانت الزيارة الثانية أثناء المجاعة مع برنابا أيضًا لتقديم بعض العطايا (أع11، 12).. في هذه الزيارة الثالثة كان معهم تيطس أيضًا.. وكانت بموجِب إعلان من الله له (غل2: 1-2)، فلم يكُن يتحرّك من نفسه بدون توجيه الله له.

    + المرجعيّة أمر مهم في الكنيسة.. لذلك ذهبّ بولس وبرنابا وآخرون إلى الرسل في أورشليم لمناقشة الأمر والخروج ببيان وفِكر موحَّد..

    + نحن في الكنيسة الآن لدينا المرجعيّة، مُمَثَّلة في التقليد الأرثوذكسي الثمين؛ ويشمل: الأسفار المقدّسة - كتابات الآباء الأوائل - النصوص الليتورجيّة - قوانين المجامع المسكونيّة - الفنون الكنسيّة من ألحان وأيقونات ومعمار كنسي..

    + انتهز القديسان بولس وبرنابا فرصة الرحلة إلى أورشليم، للمرور على الكنائس الموجود في فينيقيّة والسامرة لافتقادها.. مشاركَين معهم الخبرات الجميلة عن الكرازة وإيمان شعوب كثيرة من الأمم بالمسيح، ورجوعهم إلى الله، مِمّا أدخل السرور إلى قلوب الإخوة المؤمنين.. درس جميل لنا أن نخدم المسيح في كلّ الظروف، ونستفيد بكلّ الفرَص.. حتّى أثناء السّفَر يمكننا خدمة كلّ مَن نلتقي بهم..

    + في أورشليم أيضًا، تكلّما مع الرسل والكهنة هناك بنفس هذا الكلام.. وبدأوا في عرض مشكلة "التهوّد".

    + يتضمّن المجمع عدّة أحداث على التوالي:

  1- مناقشات ومباحثات عامّة لإبداء وِجهات النظر.

  2- حديث هام للقدّيس بطرس الرسول.

  3- حديث من برنابا وبولس.

  4- حديث هام للقدّيس يعقوب الرسول.

  5- ختام ببيان مُصاغ بكلّ دِقّة.

  6- إرسال وفد من أورشليم مع البيان ومع القدّيسين بولس وبرنابا.

    + تمّت هذه الأحداث حوالي سنة 50م.

    + نستعرض أحداث المجمع بالتفصيل في المقال التالي بنعمة المسيح..

    دمتم في سلام الله،،

(يُتَّبَع)

8 / 17