الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (6)

* خدمة الرسوليـن برنابا وبولس في آسيا الصغرى:

    + آسيا الصغرى هي تركيا حاليًا (انظر الخريطة المُرافِقة).

    + نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:

    "وَأَمَّا هُمْ فَجَازُوا مِنْ بَرْجَةَ وَأَتَوْا إِلَى أَنْطَاكِيَةِ بِيسِيدِيَّةَ، وَدَخَلُوا ٱلْمَجْمَعَ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَجَلَسُوا. وَبَعْدَ قِرَاءَةِ ٱلنَّامُوسِ وَٱلْأَنْبِيَاءِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُؤَسَاءُ ٱلْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْإِخْوَةُ، إِنْ كَانَتْ عِنْدَكُمْ كَلِمَةُ وَعْظٍ لِلشَّعْبِ فَقُولُوا. فَقَامَ بُولُسُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ.."

    + أنطاكية بيسيديّة هي مدينة تتبع مقاطعة "غلاطية".

    + نلاحظ الأفعال: جازوا - أتوا - دخلوا - جلسوا.. كلّها أفعال ديناميكيّة..

    + على الخادم أن يسعى ويجتهد ويضع نفسه في المكان المناسب، وينتظر أن يفتح الله بابًا للكلام والكرازة والعمل..

    + مع أنّهم كانوا غرباء، إلاّ أنّ الله حرّك المسؤولين من أجل دعوتهم لكلمة الوعظ.. لعلّهم كانوا يصلّون وهم جالسين أثناء قراءة الناموس والأنبياء، حتّى يفتح الله لهم بابًا للكرازة..!

* عظة القديس بولس الرسول في المجمع بأنطاكية بيسيديّة:

    + يذكر لنا سفر أعمال الرسل ثلاث عظات كبيرة للقدّيس بولس الرسول، في رحلاته الكرازيّة الثلاث، بواقع واحدة في رحلة.. الأولى كانت في مجمع يهودي بأنطاكية بيسيدية، وموجَّهة لليهود (أع13: 16-41)، والثانية في مدينة أثينا، وموجَّهة لليونانيّن الوثنيّين (أع17: 22-31)، والثالثة في ميليتُس بغرب آسيا الصغري، وموجَّهة لرعاة الكنيسة في منطقة أفسس وما حولها (أع20: 18-35).. وهكذا يقدّم لنا الروح القدس في سِفر الأعمال ثلاثة نماذج متنوّعة، لعظات قدّمها القدّيس بولس، موجّهَة لثلاث فئات متنوّعة، بحسب ما أعطاه الروح أن يتكلّم..

    + هذه الثلاث عظات تحتاج لدراسة خاصّة وتأمّلات موسَّعة، لكنّنا سنتناول فقط في هذه السلسلة من المقالات بعض النقاط المُركّزة حول كلّ عظة.

* أهمّ نقاط العظة الأولى:

    + يبدأ العظة بمديح وتشجيع للمسامعين، ويصفهم بالأتقياء.

    + الذي يتّقي الله هو الذي يؤمن به كخالق، ويحترم وجوده ووصاياه، ويحبّ الاشتراك في عبادته..

    + اليهود يحبّون تاريخهم، ويفتخرون به.. لذلك قام القديس بولس بعرض تاريخي.. شمل: اختيار الله ورفعه لشعبه - قوّته التي ظهرت معهم في أحداث عديدة - الوصول إلى داود..

    + الانطلاق من داود ملكهم الأشهر.. والاهتمام بقلبه الذي بحسب قلب الله ويصنع مشيئته.. ومِنه أقام الله مُخَلِّصًا لإسرائيل..

    + التركيز على شخص يسوع المُخَلِّص.. وكرامته.. والاستعداد لقبوله بالتوبة..

    + كلمة الوعظ هي كلمة للخلاص.. لكلّ مَن يقبل ويؤمن ويتوب "إِلَيْكُمْ أُرْسِلَتْ كَلِمَةُ هَذَا ٱلْخَلَاصِ" ع26.

    + الاهتمام بذِكر تفاصيل أحداث الفِداء والصلب والقيامة، والتركيز عليها.. فهي أحداث محوريّة..

    + المسيح وهو ابن الله صار ابنًا للإنسان، لكي يعطينا نعمة أن نكون أبناء الله فيه.. وهذا هو صُلب الإيمان المسيحي.

    + إلقاء الضوء على بعض المزامير النبويّة [مز2، مز16]، مع مقتطفات من أسفار الأنبياء: [إش 29:14، 53: 11، 55: 3، حب1: 5].

    + الهدف النهائي هو الخلاص بغفران الخطايا، والتبرُّر بالإيمان بالمسيح.. وعودة الشركة مع الله، وهذه هي الحياة الأبديّة..!

* ملاحظات عامّة على العظة:

   1- المديح في البداية يفتح القلوب للكلمة.

   2 - في عمليّة البناء الفِكري التي يهتمّ الواعظ بتكوينها في أذهان السامعين، لابد أن يتمّ هذا البناء على أساس جيِّد موجود أصلاً لديهم، وليس على فراغ.. والأساس الموجود كان هو الإيمان بالناموس والأنبياء، وهو ما استخدمه القدّيس بولس في كلامه، للبناء عليه.

   3- إظهار صورة المسيح المُحِب المُخلِّص والواهب الحياة، هو محور رئيسي في أيّ كلمة وعظ.

   4- كلمة الله حيّة وجذّابة وثمينة.. والخادم الواعي يدرك أنّه يتاجر في الذهب، لذلك يجب أن تكون حياته غنيّة بالكلمة، كما جاء في رسالة كولوسي: "لتسكُن فيكم كلمة المسيح بغِنى" (كو3: 16)..!

   5- مهمّتنا أن نلقي البذار مِثل الزارع النشيط، أمّا الثمار فهي تأتي طبقًا لجَودة الأرض..!

   6- العظة ينبغي أن تُتَوَّج بنداء التوبة والعودة لأحضان الله والتبرّر بنعمته، فهذا مكسب عظيم لا يُصَدَّق متاحٌ لنا مجّانًا..

   7- لن يقف الشيطان مكتوف الأيدي أمام عملنا الروحي، بل سيقاوم بكلّ قدرته.. ولكن هذا لن يمنع النمو والفرح..!

* ثمار العظة:

    + تبع كثيرون من اليهود والدخلاء المتعبّدين بولس وبرنابا.. هكذا نرى ثمارًا فوريّة.. ونفوسًا جوعانة وعطشانة للبرّ لا تكتفي بعظة أسبوعيّة، بل تطلب المزيد..!

    + كانت كلمات الرسولين للذين تبعوهم بعد العظة، لا تحمل تعليمات أو تدريبات، بل فقط هي تشجيع وإقناع على الثبات في نعمة الله الغنيّة..!

    + في الأسبوع التالي، اجتمعَت المدينة كلّها تقريبًا لتسمع كلمة الله الغنيّة المعزّية..!

    + "اليهود امتلأوا غيرة".. هذه حِمية غير مقدّسة، نتيجة الحسد.. فمن الواضح أنّ بولس الرسول كان يتكلّم بنعمة كبيرة، وله كاريزما قويّة تجتذب الكثيرين.. وبالتأكيد هذا ثمرة كلمة الله الحيّة فيه، والتي يلهج فيها نهارًا وليلاً..!

    + مَن يرفض كلمة الله، يرفض الحياة الجديدة في المسيح، ويحكم على نفسه أنّه غير مستحقّ للحياة الأبديّة.

    + "هوذا نتوجّه إلى الأمم".. دائمًا هناك أبعاد أوسع مِما نراه أمامنا.. والله يفتح لنا أبوابًا وآفاقًا جديدة للكرازة.. فهو غير محصور في خاصّته، بل هو يطلب خلاص الجميع، ويريد أن يستخدمنا لتتميم ذلك.

    + "آمن جميع الذين كانوا مُعَيَّنين للحياة الأبديّة".. هل هناك معيّنون وآخرون غير معيّنين؟! وهل نستطيع أن نحدّدهم؟! الحقيقة أنّ دورنا فقط أن نكرز، حتّى نتمّم مسؤوليّتنا نحو المعيّنين للحياة الأبديّة.. دون أن نحكم على أحد بأنّه معيّن أو غير معيّن..!

    + انتشرت كلمة الربّ ونمت في كلّ المنطقة.. فنحن نضع البذرة أو نسقيها، والله قادر أن يبارك وينمّي، لأنّ الكلمة حيّة وفعّالة (عب4)..

    + اليهود حرّكوا.. وأثاروا اضطهادًا.. هكذا تأتي مقاومة عدو الخير، بل تَهِيج، بالذّات عن طريق المتشدّدين، الذين لا يطيقون تغيير ما تسلّموه.. والمتعصّبين الذين لا تطيق عيونهم النور..

    + أن نكون مرفوضين، فهذا متوقَّع دائمًا.. كما كان المسيح مرفوضًا في أوقاتٍ كثيرة.. فلا ينبغي أن نحزن أو نضطرب.. بل نتذكّر كلام الربّ يسوع: إذا طردوكم من مدينة فاذهبوا للأخرى (مت10: 23)..!

    + "أمّا التلاميذ فكانوا يمتلئون من الفرح والروح القدس".. وهذا هو عزاؤنا في غياب آبائنا ومعلّمينا.. فشعلة الروح القدس تظلّ موقدة، وتلتهب أكثر بالصلاة ودراسة الكلمة الإلهيّة..

    + الكلمة الحيّة التي غُرِسَت فيهم، كانت تعمل بقوّة في قلوبهم، فتملأها بالفرح..!

* الخدمة في أيقونية:

    + "أيقونية" هي عاصمة ليكاؤنية بآسيا الصغرى، وتقع شرق "أنطاكية بيسيديّة".

    + نقرأ ما يلي:

    "وَحَدَثَ فِي إِيقُونِيَةَ أَنَّهُمَا دَخَلَا مَعًا إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ وَتَكَلَّمَا، حَتَّى آمَنَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ. وَلَكِنَّ ٱلْيَهُودَ غَيْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَرُّوا وَأَفْسَدُوا نُفُوسَ ٱلْأُمَمِ عَلَى ٱلْإِخْوَةِ. فَأَقَامَا زَمَانًا طَوِيلًا يُجَاهِرَانِ بِٱلرَّبِّ ٱلَّذِي كَانَ يَشْهَدُ لِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، وَيُعْطِي أَنْ تُجْرَى آيَاتٌ وَعَجَائِبُ عَلَى أَيْدِيهِمَا. فَٱنْشَقَّ جُمْهُورُ ٱلْمَدِينَةِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ مَعَ ٱلْيَهُودِ، وَبَعْضُهُمْ مَعَ ٱلرَّسُولَيْنِ. فَلَمَّا حَصَلَ مِنَ ٱلْأُمَمِ وَٱلْيَهُودِ مَعَ رُؤَسَائِهِمْ هُجُومٌ لِيَبْغُوا عَلَيْهِمَا وَيَرْجُمُوهُمَا، شَعَرَا بِهِ، فَهَرَبَا إِلَى مَدِينَتَيْ لِيكَأُونِيَّةَ: لِسْتِرَةَ وَدَرْبَةَ، وَإِلَى ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ. وَكَانَا هُنَاكَ يُبَشِّرَانِ" (أع14: 1-7).

    + دربة ولسترة يقعان جنوب شرق أيقونية، داخل مقاطعة ليكاؤنية..

    + الخدمة والكرازة لا ينبغي أن تتوقّف.. بينما مقاومة عدو الخير لا تتوقّف أيضًا..

    + مَجمع اليهود كان دائمًا هو قاعدة الانطلاق..

    + اليهود غير المؤمنين هم غير الطائعين لكلمة الله، والرافضين للبشارة المُفرِحة بخلاص المسيح.

    + أقاما زمانًأ طويلاً.. الصبر وطول الأناة عوامل مهمّة لنضج الثمار.. وواضح أنّ الرحلة الكرازيّة الأولى كان معظم وقتها في آسيا الصغرى مع فترة أصغر في قبرس.

    + الكرازة شملت اليهود واليونانيّين.. والربّ كان يؤيّد خدّامه بمعجزات كما وعد.. وعلى الرغم من ذلك لم يؤمن الجميع..!

    + الشيطان دائمًا يزرع انشقاقات.. ولمّا يفشل في إيقاف عمل الله بالأكاذيب والتضليل يلجأ إلى العنف.. فكانت هناك خطّة لقتل بولس وبرنابا رجمًا.

    + كلمة الله لا تُقيَّد (2تي2).. وحقول الكرازة متّسعة جدًّا (يو4).. وأحيانًا تؤدّي الضيقات في مكانٍ ما إلى انتشار الكرازة في أماكن أخرى.. فكان بولس وبرنابا يذهبون من مدينة إلى مدينة دون توقُّف.

    + بمناسبة الخدمة في أيقونيّة، توجَد وثيقة شيّقة من القرن الثاني، تكشف لنا عن الملامح الجسديّ الحقيقيّة للقدّيس بولس. تحكي الوثيقة عن رجل من أيقونيّة ذهب لمقابلة القديس بولس، وكان بولس قد وُصِف له بالملامح التالية: رجل ذو حجم صغير، بحواجب متّصلة، وأنف كبير. أصلع. مع قدمين مقوّستين، لكنّ بنيانه قويّ. مملوء بالنعمة لدرجة أنّه في بعض الأوقات يبدو وجهه كوجه ملاك.

(يُتَّبَع)

6 / 17