الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (5)

* رحلة ق. بولس الكرازيّة الأولى:

    + صارت أنطاكيه مركزا جديدًا للكنيسة، بجانب أورشليم المركز القديم، فصارت مهيًّأة لانطلاق مجموعات تكرز بخلاص المسيح منها إلى كلّ العالم.. وبالفعل منها انطلقت خدمة الرسول بولس، بإرشاد الروح القدس..

    + نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:

    "كَانَ فِي أَنْطَاكِيَةَ فِي ٱلْكَنِيسَةِ هُنَاكَ أَنْبِيَاءُ وَمُعَلِّمُونَ: بَرْنَابَا، وَسِمْعَانُ ٱلَّذِي يُدْعَى نِيجَرَ، وَلُوكِيُوسُ ٱلْقَيْرَوَانِيُّ، وَمَنَايِنُ ٱلَّذِي تَرَبَّى مَعَ هِيرُودُسَ رَئِيسِ ٱلرُّبْعِ، وَشَاوُلُ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ. فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ٱلْأَيَادِيَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا." (أع13: 1-3).

    + نلاحظ أنّ مجموعة الخدّام والمعلّمين كانت كبيرة، ومن خلفيّات متنوّعة، وشاول كان أصغرهم..

    + في معظم الأحيان، عندما تنمو الكنيسة، يكون فيها أنواع مختلفة من المواهب، تحتاج إلى توظيف.. كلّ موهبة في مكانها لبنيان الجسد..

    + كيف كان يتكلّم الروح القدس؟ هذا سؤال صعب، لا نعرف إجابته بدقّة..

    + في الأصل اليوناني كلمة "يخدمون" تأتي واضحة "ليتورجونتون" أي يقيمون الخدمة الليتوجيّة للرب، وهم صائمون.. فأرشدهم الروح القدس أثناء "القُدّاس" لسيامة برنابا وشاول كأساقفة وإطلاقهما للعمل الكرازي..

    + نرى بوضوح أنّ "الخدمة الليتورجيّة" أي "القُدّاس" مرتبط بالصوم.. منذ بداية الكنيسة..

    + على الرغم أنّ شاول كان قد تلقّى دعوة شخصيّة من المسيح لتبعيّته، إلاّ أنّه كان لا يزال يحتاج للرسامة الكهنوتيّة بوضع اليد من الكنيسة..!

    + تمّ فرز برنابا وشاول من الله شخصيًّا، وليس كالفرّيسيّين الذين كانوا يتوارثون الوظيفة.. فالدعوة من الله، والعمل عمل الله.. وتخصيصهم للإرساليّة جاء من الله داخل الكنيسة، بوضع اليد وسيامتهم أساقفة..

    + تفاصيل العمل المطلوب لم تتّضح بعد.. ولكن هذه هي طريقة الله؛ أن يدعونا للخدمة فنسير معه بالإيمان، ثُمّ يرشدنا بروحه القدّوس خطوة بخطوة..

    + ملخّص الرحلة الأولى أنّهم ذهبوا للكرازة في منطقتين كبيرتين؛ الأولى هي جزيرة قبرص، والثانية هي آسيا الصغري.. وفي كلّ منطقة زارا عدّة مدن وأسّسا بعض الكنائس.. ثمّ عادا في النهاية إلى محطّة البداية في أنطاكية.. واستغرقت الرحلة حوالي ثلاث سنوات.

    + الرحلة بوجه عام هي رحلة حافلة بالأحداث الجميلة والعجيبة، كما أنّها حافلة بكافّة أنواع المصاعب والتحدّيات أيضًا..!

    + نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:

    "فَهَذَانِ إِذْ أُرْسِلَا مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱنْحَدَرَا إِلَى سَلُوكِيَةَ، وَمِنْ هُنَاكَ سَافَرَا فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى قُبْرُسَ. وَلَمَّا صَارَا فِي سَلَامِيسَ نَادَيَا بِكَلِمَةِ ٱللهِ فِي مَجَامِعِ ٱلْيَهُودِ. وَكَانَ مَعَهُمَا يُوحَنَّا خَادِمًا" (أع13: 4-5).

    + سلوكيّة هي ميناء على البحر المتوسّط، بجوار أنطاكية.

    + سلاميس مدينة في شرق جزيرة قبرس.

    + البداية كانت دائمًا في مجامع اليهود، ومعظم محطّات الرحلة الأولى كانت الكرازة فيها تبدأ من مجامع اليهود..

    + الخدمة في أساسها هي المناداة بكلمة الله.. كَمَن يُلقي الشباك للصيد.. وكلمة الله تقود للإيمان والتوبة..

    + واضح أنّ يوحنّا الملقَّب مرقس، كان ذاهبًا معهما ليتعلّم ويأخُذ خبرة، وهما بدورهما أعطياه مسؤوليّات لمساعدتهما.. ويقول البعض أنّه كان يقوم بخدمة التعميد للمؤمنين الجُدُد.

    + ثمّ نقرأ في سفر الأعمال:

    "وَلَمَّا ٱجْتَازَا ٱلْجَزِيرَةَ إِلَى بَافُوسَ، وَجَدَا رَجُلًا سَاحِرًا نَبِيًّا كَذَّابًا يَهُودِيًّا ٱسْمُهُ بَارْيَشُوعُ، كَانَ مَعَ ٱلْوَالِي سَرْجِيُوسَ بُولُسَ، وَهُوَ رَجُلٌ فَهِيمٌ. فَهَذَا دَعَا بَرْنَابَا وَشَاوُلَ وَٱلْتَمَسَ أَنْ يَسْمَعَ كَلِمَةَ ٱللهِ. فَقَاوَمَهُمَا عَلِيمٌ ٱلسَّاحِرُ، لِأَنْ هَكَذَا يُتَرْجَمُ ٱسْمُهُ، طَالِبًا أَنْ يُفْسِدَ ٱلْوَالِيَ عَنِ ٱلْإِيمَانِ. وَأَمَّا شَاوُلُ، ٱلَّذِي هُوَ بُولُسُ أَيْضًا، فَٱمْتَلَأَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَشَخَصَ إِلَيْهِ وَقَالَ: «أَيُّهَا ٱلْمُمْتَلِئُ كُلَّ غِشٍّ وَكُلَّ خُبْثٍ! يَا ٱبْنَ إِبْلِيسَ! يَاعَدُوَّ كُلِّ بِرٍّ! أَلَا تَزَالُ تُفْسِدُ سُبُلَ ٱللهِ ٱلْمُسْتَقِيمَةَ؟ فَٱلْآنَ هُوَذَا يَدُ ٱلرَّبِّ عَلَيْكَ، فَتَكُونُ أَعْمَى لَا تُبْصِرُ ٱلشَّمْسَ إِلَى حِينٍ». فَفِي ٱلْحَالِ سَقَطَ عَلَيْهِ ضَبَابٌ وَظُلْمَةٌ، فَجَعَلَ يَدُورُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَقُودُهُ بِيَدِهِ. فَٱلْوَالِي حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى مَا جَرَى، آمَنَ مُنْدَهِشًا مِنْ تَعْلِيمِ ٱلرَّبِّ" (أع13: 6-12).

    + انتقلت القافلة الكرازيّة إلى مدينة بافوس في غرب جزيرة قبرص، ولكن الحديث دائمًا يكون بالمثنّى، عن برنابا وشاول الخادمين الأساسيّين فقط، اللذين دعاهما الروح القدس، دون مارمرقس.. ويبدو أنّ هاتين المدينتين كانتا كبيرتين وبهما عدد كبير من اليهود..

    + عندما سمع الوالي في بافوس عن الكرازة بالمسيح، استدعى بولس وبرنابا ليسمع كلمة الله عن الإيمان بالمسيح..

    + يقول الإنجيل عن الوالي "سرجيوس بولس" أنّه كان رجلاً فهيمًا.. أي هو رجلٌ عاقلٌ وذكيٌّ..

    + العقل أعظم وزنة وهبها الله لنا، وعندما نستعملها فهي تقودنا إلى الله، لأنّها في الأساس تحمل قدرًا من العقل الإلهي اللانهائي (اللوجوس).. ولعلّنا نتذكّر قول الربّ يسوع للكاتب الذي أجاب بعقلٍ: "لستَ بعيدًا عن ملكوت الله" (مر12: 34).

    + التمَسَ أن يسمع كلمة الله.. يوجد بداخل النفس عطشٌ للمياه الحيّة.. أمّا مياه العالم فهي لا تروي، مهما حاول العالم تحليتَها..!

    + مع بداية خدمة القدّيس بولس الرسميّة، بدأ يظهر مقاومون أيضًا.. هنا يظهر ساحر يهودي كذّاب يدّعى النبوّة، اسمه "باريشوع" أو "عليم الساحر" أو "أليماس المجوسي"..

    + من ملامح عمل الشيطان الشوشرة والكذب والتضليل.. وهذه كانت نفس طريقته في مقاومة أعمال السيّد المسيح المُبهرة، فعندما أخرج الربّ الشيطان من المجنون الأعمى الأخرس، قال إبليس على لسان الفرّيسين أنّه ببعلزبول رئيس الشياطين يُخرج الشياطين.. هذه الطريقة الشيطانيّة المخادِعة تكشف عن هزيمة وفشل، ولكنّه لايزال يستخدمها في كلّ زمان، لأنّه متكبّر ولا يعترِف أبدًا بالهزيمة..

    + كان ردّ فِعل القدّيس بولس قويًّا وحاسمًا.. وكان تصرُّفه بقيادة الروح القدس وسلطانه.. وواضح أنّه صلّى حتّى يمتلئ من الروح القدس.. بعد مشادّة طويلة حدثت بينهما وبين الساحر..

    + النور فضح الظلمة، والحقّ كشف الباطل.. الباطل ممتلئ بالغشّ والخبث.. ومَن يتكلّم بالكذب فهو يضع نفسه في مصاف أبناء إبليس..

    + هوذا يد الربّ عليك، فتكون أعمى لا تبصر الشمس إلى حين.. العقاب يكون في مصلحة الإنسان، لكي لا يتمادى في الخطأ، ويدفع ثمنًا أكبر.. كما أنّه يساعد الإنسان على الانتباه والتوبة، وبالتالي على خلاص نفسه.

    + يد الله الحانية الشافية المقتدرة دائمًا تعمل في صالح الإنسان، حتّى لو عاقبته بشدّة.. فهي تقود الإنسان بوسائل متعدّدة إلى التوبة وطريق الحياة الأبديّة..

    + المعجزة هدفها إظهار قوّة الله، لكي يؤمن غير المؤمنين. والمعجزات أيضًا أُعطِيَت للخدام من أجل تثبيت التعليم عن الربّ.. كما قِيل في إنجيل القدّيس مرقس "هذه الآيات تتبع المؤمنين... خرجوا وكرزوا في كلّ مكان، والربّ يعمل معهم، ويثَبِّت الكلام بالآيات التابعة" (مر16: 17-20).

    + اكتفى الرسولان بهذا المقدار من الكرازة في قبرص، وانتقلا إلى آسيا الصغرى..

    + نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:

    "ثُمَّ أَقْلَعَ مِنْ بَافُوسَ بُولُسُ وَمَنْ مَعَهُ وَأَتَوْا إِلَى بَرْجَةِ بَمْفِيلِيَّةَ. وَأَمَّا يُوحَنَّا فَفَارَقَهُمْ وَرَجَعَ إِلَى أُورُشَلِيمَ" (أع13: 13).

    + انتقل الرسولان برنابا وبولس من بافوس بقبرس إلى برجة بمفيليّة بآسيا الصغرى.. وهناك فارقهما القديس مرقس، ورجع إلى أورشليم..

    + تظلّ أسباب مفارقة مارمرقس لهما غير معروفة بشكل مؤكَّد.. ولكنّنا من سياق الأحداث نستطيع أن نتصوّر بعض الأسباب:

  1- قال البعض أنّ عودته كانت لسبب مرضٍ أصابه أثناء الرحلة.

  2- لعلّه لم يهيّئ نفسه لرحلة طويلة وشاقّة مثل هذه.. فالرحلة الكرازيّة الأولى ككلّ استغرقت حوالي ثلاث سنوات..!

  3- ربّما يكون مارمرقس قد اكتفى بهذا القدر من الخدمة، ويودّ أن يعود ويهدأ في خلوة، وسط الجوّ الدافئ للكنيسة.. وهذا إحساس يَشعُر به الكثيرون مِن الذين خدموا في مناطق جديدة بعيدة عن الكنيسة الأمّ، فيكون لديهم حنين شديد للعودة إلى المناخ الروحي القوي، وسط الخُدّام المملوءين بالنعمة.

  4- لعلّه مع عدم إحساسه بالدعوة الشخصيّة من الله، لم يُفَضِّل أن يستمرّ معهم في تلك المرحلة، بل فكّر أن يعود إلى مركز الكنيسة بأورشليم، حتّى يأتي الوقت الذي يسمع فيه دعوة الله الشخصيّة له، بالذهاب إلى خدمة كرازيّة أخرى..

  5- لا ينبغي أن ننسى أنّ والدته كانت في أورشليم، ومتقدّمة في أيّامها.. وهناك أيضًا كان القدّيس بطرس لايزال موجودًا مع القدّيس يعقوب الرسول وآخرون، وهم مدرسة روحيّة غنيّة ورفيعة المستوى.. لذلك فعودة مارمرقس لأورشليم ومكوثه بها لفترة كانت بالتأكيد فترة تلمذة ونموّ كبيرة في حياته.

    + سنلاحظ أنّ الحديث بدأ يكون عن بولس ومَن معه.. وقد يعني هذا أنّه قد تمّ تجنيد بعض الخدّام من المؤمنين الجدد مع الرسولين بولس وبرنابا، لخدمة الكرازة.. ولعلّ هذا أحد أسباب عودة مارمرقس إلى أورشليم، بعد أن اطمأنّ على وجود عدد جيّد من الخُدّام مع برنابا وبولس..!

(يُتَّبَع)

5 / 17