الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (4)

* شاول المؤمن بالمسيح

    + يرجّح معظم الدارسين أنّ شاول الطرسوسي تقابل مع المسيح وآمن به حوالي سنة 37م.

    + لم يكُن سهلاً على شاول المؤمن الجديد، أن ينضمّ للإخوة التلاميذ أتباع يسوع بسلاسة.. فقد كان البعض متخوِّفًا منه، والبعض يتذكَّر له الجرائم التي ارتكبها سابقًا في حقّ التلاميذ.. فكان انسجامه داخل الكنيسة يواجه العديد من الصعوبات.. بالإضافة إلى جرأته في الشهادة، التي أثارت اليهود عليه وعلى كلّ التلاميذ، في أيّ مكان تواجد فيه..

    + في بداية إيمانه ذهب وقضى ثلاث سنوات في العربيّة.. وهي منطقة صحراويّة تمتدّ من جنوب دمشق حتّى أطراف خليج العقبة بالبحر الأحمر.. ولعلّها كانت فترة لفهم الأسفار المقدّسة في ضوء نعمة العهد الجديد.. وكانت أيضًا فترة صلاة وعُمق، واستلام الإيمان والأسرار الإلهيّة بكلّ تفاصيلها من السيّد المسيح شخصيّا..

    + لقد انفتح الوعي الروحي للقدّيس بولس بالروح القدس، ليفهم سرّ المسيح بالتدريج..

    + يقول ق. بولس عن تلك الفترة: "وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ ٱلْإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لِأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلَا عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلًا فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ ٱللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا. وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ ٱللهَ ٱلَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ، أَنْ يُعْلِنَ ٱبْنَهُ فِيَّ لِأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا، وَلَا صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى ٱلرُّسُلِ ٱلَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ ٱنْطَلَقْتُ إِلَى ٱلْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضًا إِلَى دِمَشْقَ. ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ ٱلرُّسُلِ إِلَّا يَعْقُوبَ أَخَا ٱلرَّبِّ.. وَبَعْدَ ذَلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ. وَلَكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِٱلْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ ٱلْيَهُودِيَّةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ. غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ: أَنَّ ٱلَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلًا، يُبَشِّرُ ٱلْآنَ بِٱلْإِيمَانِ ٱلَّذِي كَانَ قَبْلًا يُتْلِفُهُ. فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللهَ فِيَّ" (غل1: 11-24).

    + واضح من هذا الكلام أنّ دراسته للأسفار المقدّسة صاحَبَتها إعلانات إلهيّة له.. فالاجتهاد الشخصي لا يكفي.. وفي نفس الوقت أيضًا، الله لا يكشف أسراره للكسالي المتوانين عن التفتيش في كلمته، بل للمجتهدين..

    + بعد عودة ق. بولس من صحراء العربيّة إلى دمشق، وهو ممتلئ بالروح، بدأ يكرز لليهود في مجامع دمشق لمدّة طويلة، أنّ المسيح يسوع هو ابن الله المُخلِّص الذي تكلّم عنه الأنبياء، كما جاء في سفر أعمال الرسل: "كَانَ شَاوُلُ مَعَ ٱلتَّلَامِيذِ ٱلَّذِينَ فِي دِمَشْقَ أَيَّامًا. وَلِلْوَقْتِ جَعَلَ يَكْرِزُ فِي ٱلْمَجَامِعِ بِٱلْمَسِيحِ: أَنْ هَذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ. فَبُهِتَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا: أَلَيْسَ هَذَا هُوَ ٱلَّذِي أَهْلَكَ فِي أُورُشَلِيمَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ بِهَذَا ٱلِٱسْمِ؟ وَقَدْ جَاءَ إِلَى هُنَا لِهَذا لِيَسُوقَهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَزْدَادُ قُوَّةً، وَيُحَيِّرُ ٱلْيَهُودَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي دِمَشْقَ مُحَقِّقًا: أَنَّ هَذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ. وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامٌ كَثِيرَةٌ تَشَاوَرَ ٱلْيَهُودُ لِيَقْتُلُوهُ، فَعَلِمَ شَاوُلُ بِمَكِيدَتِهِمْ. وَكَانُوا يُرَاقِبُونَ ٱلْأَبْوَابَ أَيْضًا نَهَارًا وَلَيْلًا لِيَقْتُلُوهُ. فَأَخَذَهُ ٱلتَّلَامِيذُ لَيْلًا وَأَنْزَلُوهُ مِنَ ٱلسُّورِ مُدَلِّينَ إِيَّاهُ فِي سَلٍّ." (أع9: 19-25)..

    + ذهب بعدها شاول إلى أورشليم، ولم يمكث فيها طويلاً، بحسب وصفه.. بل فقط حوالي أسبوعين.. وحدث ما يلي:

    "وَلَمَّا جَاءَ شَاوُلُ إِلَى أُورُشَلِيمَ حَاوَلَ أَنْ يَلْتَصِقَ بِٱلتَّلَامِيذِ، وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَخَافُونَهُ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ أَنَّهُ تِلْمِيذٌ. فَأَخَذَهُ بَرْنَابَا وَأَحْضَرَهُ إِلَى ٱلرُّسُلِ، وَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ أَبْصَرَ ٱلرَّبَّ فِي ٱلطَّرِيقِ وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَكَيْفَ جَاهَرَ فِي دِمَشْقَ بِٱسْمِ يَسُوعَ. فَكَانَ مَعَهُمْ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ فِي أُورُشَلِيمَ وَيُجَاهِرُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ. وَكَانَ يُخَاطِبُ وَيُبَاحِثُ ٱلْيُونَانِيِّينَ، فَحَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ. فَلَمَّا عَلِمَ ٱلْإِخْوَةُ أَحْدَرُوهُ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى طَرْسُوسَ" (أع9: 26: 30).

    + مكث شاول في طرسوس بلده لشهورٍ طويلة، يكرز بقدر إمكانه، ويدرس بعمق في الأسفار المقدّسة، ويصلّي لكي يرشده الله ويدبّر له الخطوة التالية..

    + كانت فترة هدوء نسبيًّا.. لقد كان الله يُعِدّه، وفي نفس الوقت يمهِّد له المكان الذي سيخدم فيه..!

    + مَن يكرّس حياته لله، ينبغي أن يكون صبورًا، ولا يتعجّل في التحرّك، بل ينتظر توجيهات الربّ له.. ويستفيد بالوقت في مدّ الجذور العميقة في الأسفار المقدّسة، وخبرة الصلاة، والنمو في العِشرة مع الله.

* خدمة شاول في أنطاكيه:

    + نقرأ في سِفر أعمال الرسل ما يلي:

    "أَمَّا ٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا مِنْ جَرَّاءِ ٱلضِّيقِ ٱلَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ ٱسْتِفَانُوسَ فَٱجْتَازُوا إِلَى فِينِيقِيَةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ، وَهُمْ لَا يُكَلِّمُونَ أَحَدًا بِٱلْكَلِمَةِ إِلَّا ٱلْيَهُودَ فَقَطْ. وَلَكِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَهُمْ رِجَالٌ قُبْرُسِيُّونَ وَقَيْرَوَانِيُّونَ، ٱلَّذِينَ لَمَّا دَخَلُوا أَنْطَاكِيَةَ كَانُوا يُخَاطِبُونَ ٱلْيُونَانِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ. وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُمْ، فَآمَنَ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَرَجَعُوا إِلَى ٱلرَّبِّ. فَسُمِعَ ٱلْخَبَرُ عَنْهُمْ فِي آذَانِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَأَرْسَلُوا بَرْنَابَا لِكَيْ يَجْتَازَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. ٱلَّذِي لَمَّا أَتَى وَرَأَى نِعْمَةَ ٱللهِ فَرِحَ، وَوَعَظَ ٱلْجَمِيعَ أَنْ يَثْبُتُوا فِي ٱلرَّبِّ بِعَزْمِ ٱلْقَلْبِ، لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَمُمْتَلِئًا مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلْإِيمَانِ. فَٱنْضَمَّ إِلَى ٱلرَّبِّ جَمْعٌ غَفِيرٌ. ثُمَّ خَرَجَ بَرْنَابَا إِلَى طَرْسُوسَ لِيَطْلُبَ شَاوُلَ. وَلَمَّا وَجَدَهُ جَاءَ بِهِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. فَحَدَثَ أَنَّهُمَا ٱجْتَمَعَا فِي ٱلْكَنِيسَةِ سَنَةً كَامِلَةً وَعَلَّمَا جَمْعًا غَفِيرًا. وَدُعِيَ ٱلتَّلَامِيذُ «مَسِيحِيِّينَ» فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلًا. وَفِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ ٱنْحَدَرَ أَنْبِيَاءُ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ ٱسْمُهُ أَغَابُوسُ، وَأَشَارَ بِٱلرُّوحِ أَنَّ جُوعًا عَظِيمًا كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ ٱلْمَسْكُونَةِ، ٱلَّذِي صَارَ أَيْضًا فِي أَيَّامِ كُلُودِيُوسَ قَيْصَرَ. فَحَتَمَ ٱلتَّلَامِيذُ حَسْبَمَا تَيَسَّرَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يُرْسِلَ كُلُّ وَاحِدٍ شَيْئًا، خِدْمَةً إِلَى ٱلْإِخْوَةِ ٱلسَّاكِنِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ مُرْسِلِينَ إِلَى ٱلْمَشَايِخِ بِيَدِ بَرْنَابَا وَشَاوُلَ" (أع11: 19-30).

    + نلاحظ أنّ ق. بولس لم يحتَج لمشجّعات، أو لمساندة من أحد، وسط الصعاب والمخاطر والأهوال التي تعرّض لها طوال حياته.. بل كانت قوّة حبّ المسيح والحياة الجديدة الغنيّة فيه، تدفعه دفعًا للكرازة بخلاصه، وبمحبّته، وبشركة الحياة المقدّسة فيه..!

    + كما نلاحظ أنّ قوّة الإيمان المسيحي عند ق. بولس، لم تكُن نتيجة لمجرد اقتناع واجتهاد فكري، بل هي قوّة نابعة من شركة حيّة مع المسيح بالروح القدس.. نابعة من حياة المسيح فيه..

    + لم يقصد ق. بولس أن يكون معلّمًا لاهوتيًّا، بل فقط كارزًا بحبّ يسوع، وغنى نعمته الفائقة التي يتمتّع بها.. فعندما حكى عن المسيح كان هذا هو التعليم اللاهوتي بكامله..!

    + ق. برنابا كان متميّزًا في تشجيع الآخرين على الخدمة معه.. فالخدمة دائمًا هي فوق طاقة إنسان واحد، وتحتاج لتعاون ومساندة من كثيرين.. وقد وضع الله برنابا في طريق شاول لكي يسانده حتّى يصِل إلى درجة مناسِبة من النضوج.

    + لأوّل مرّة تدخُل تسمية المؤمنين بالمسيحيّين، في أنطاكيه على يد برنابا وشاول.. وكان قبل ذلك المؤمنون يسمَّون: "تلاميذ" أو "إخوة" أو "أهل الطريق".

    + ذهب شاول مع برنابا إلى أورشليم للمرّة الثانية، ليحمل الصدَقات أثناء المجاعة، وكان ذلك حوالي سنة 44م. وعندما عادا إلى أنطاكية أخذا معهما من أورشليم يوحنّا الملقّب مرقس.. الذي هو ابن مريم أخت برنابا.

    + صارت أنطاكيه مركزا جديدًا للكنيسة، بجانب أورشليم المركز القديم.. ومنها انطلقت خدمة الرسول بولس.. وكان قد تَكَوَّن فيها قيادات كثيرة من الكارزين والمعلّمين الغيورين المتحمّسين للخدمة.

    + كان في أنطاكيّة حرّيّة أكبر من التي في أورشليم.. من ناحية استخدام اللغة اليونانيّة، والتبشير للأمم، ونمو الكنيسة.. فصارت مركزًا للإشعاع الروحي وانطلاق الخدّام في دوائر أوسع..

    + لا نعرف سبب مرافقة يوحنا الملقّب مرقس لبرنابا وشاول.. قد يكون برنابا قد توسّم فيه خادمًا واعدًا، كما توسَّم في شاول.. وخاصّةً عندما وجَدَ فيه الغيرة والمعرفة بأكثر من لغة.. فدعاه أن يذهب معهم لأنطاكية، ويخدم معهم هناك.

(يُتَّبَع)

4 / 17