الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (3)

* ظهور المسيح لشاول بالقُرب من دمشق، ودعوته للخدمة:

    + هذه هي الحادثة الكبرى والمحوريّة في حياة ق. بولس. وهي نقطة التحوُّل العُظمى في حياته. هناك نقط تحوّل ومراحل تطوّر عديدة في حياة بولس الرسول، لكن هذه الحادثة كانت هي أهمّهم على الإطلاق، ولم تغب عن ذاكرته طوال حياته.

    + دمشق مدينة كبيرة وقديمة جدًّا، أقدم من زمن إبراهيم.. أي عمرها أكثر من 2000 سنة قبل الميلاد.

    + جاءت رحلة شاول من أورشليم إلى دمشق كمحاولة لإطفاء النيران المشتعلة في قلوب أتباع يسوع هناك، ولكنّ هذه النيران التهمته هو، فتحوّل من ذئب إلى حَمَل..!

    + ذُكِرَت هذه الحادثة ثلاث مرّات بالتفصيل في سِفر أعمال الرسل، المرّة الأولى على لسان القدّيس لوقا (أع9: 3-9)، ومرّتَين على لسان ق. بولس نفسه (أع22: 6-11) و(أع26: 13-18).. وفيهما تفاصيل أكثر..

    + تكرار ذِكر هذا الموقف يؤكِّد أهمّيّته الكبرى، ولا يوجَد مثله في احتلال مساحة كبيرة في أسفار العهد الجديد إلاّ أحداث صلب المسيح.

    + يمكننا من الروايات الثلاث عرض ما حدث كالآتي:

  - شاول الطرسوسي ذاهب إلى دمشق مع بعض الرفاق، وعلى مشارف دمشق يُبرِق حوله نور عظيم من السماء، أفضل من لمعان الشمس.. يغمره ويغمر الذين معه، فيسقطوا جميعًا على الأرض.

  - يسمع شاول صوتًا يكلّمه باللغة العبرانيّة: شاول شاول، لماذا تضطهدني؟ صعبٌ عليك أن ترفس مناخس؟ فيقول: مَن أنت يا سيّد؟ فيردّ عليه الربّ: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده.

  - الذين معه كانوا صامتين، بعد أن نظروا النور وارتعبوا، وكانوا يسمعون صوتًا ولا ينظرون أحدًا.. فلم يستطيعوا أن يميّزوا صوت الذي كان يكلّم شاول.

  - يقول شاول وهو مرتعد ومتحيِّر: يارب ماذا تريد أن أفعل؟ فيقول له الربّ: قم وِقف على رجليك واذهب إلى دمشق، وادخل المدينة، هناك يُقالُ لك عن جميع ما تَرَتَّب لك أن تفعل.

  - فقد شاول بصره نتيجة شِدّة بهاء النور الذي ظهر له، فكان مفتوح العينين ولا يبصر أحدًا.. فاقتاده الذين كانوا معه، ممسكين بيده حتّى جاء إلى دمشق.

  - استمرّ شاول لا يبصر لمدّة ثلاثة أيّام، وكان يصلّي صائمًا بدون أكل أو شُرب طوال هذه المُدّة، منتظرًا الخطوة التالية.

    + لخّص شاول الرسالة التي سمعها من المسيح بعد هذا اللقاء، كالتالي: ظهرتُ لك لأنتخبك خادمًا وشاهدًا بما رأيتَ، وبما سأظهَرُ لك به، مُنقِذًا إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أُرسلك إليهم، لتفتح عيونهم، كي يرجعوا من ظُلُماتٍ إلى نورٍ، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتّى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيبًا مع المقدَّسين (أع26: 16-18).

    + بعد أن ظهر الربّ يسوع لشاول وتحدّث معه، ظهر في رؤيا لحنانيا، وهو من التلاميذ، من أصل يهودي، رجلاً تقيًّا حسب الناموس، ومشهودًا له من جميع اليهود السكّان في دمشق (أع22: 12).. وتقول بعض التقاليد أنه كان من السبعين رسولاً، وكان أسقفًا لدمشق في ذلك الوقت.. قال له الربّ: قم اذهب إلى الزقاق الذي يُقال له المستقيم، واطلب في بيت يهوذا رجلاً طرسوسيًّا اسمه شاول، لأنّه هوذا يصلّي، وقد رأى في رؤيا رجلاً اسمه حنانيا داخلا وواضعًا يده عليه لكي يبصر. فأجاب حنانيا: يارب، قد سمعت من كثيرين عن هذا الرجل، كم من الشرور فعل بقدّيسيك في أورشليم. وههنا له سلطان من قِبَل رؤساء الكهنة أن يُوثِق جميع الذين يدعون باسمك. فقال له الرب: اذهب، لأنّ هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل. لأنّي سأريه كم ينبغي أن يتألّم من أجل اسمي (أع9: 11-16).

    + الواضح هنا أن حنانيا كان يَعلَم بالفظائع التي ارتكبها شاول ضدّ المؤمنين بالمسيح.. وجاءته تقارير عن زيارته الشرّيرة لدمشق، ربّما للحذر منه.. لذلك كان خائفًا من الذّهاب إليه.. لكنّ الربّ يسوع طمأنه، وأعلمه بمستقبل هذا الشخص الذي سيتحوّل من ذئب إلى حمل، بل وراعي للحملان..

    + واضح أيضًا التنسيق الإلهي لترتيب معموديّة شاول، بالظهور في رؤيا لحنانيا، والكشف لشاول عمّا سيحدث في رؤيا أيضًا.. وهذا يشابه ما حدث في قصّة إيمان كُرنيليوس على يد بطرس الرسول، إذا رأى الاثنان رؤيا في نفس اليوم.. يا لجمال التنسيق الإلهي العجيب..!

    + أطاع حنانيا على الفور، وذهب لشاول، ووضع عليه يديه قائلاً: أيّها الأخ شاول، قد أرسلني الربّ يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئتَ فيه، لكي تُبصِر وتمتلئ من الروح القدس.. وقال له: أيّها الأخ شاول، أبصِر. فللوقت وقع من عينيه شيء كأنّه قشور، فأبصر في الحال. ثمّ قال له حنانيا: إله آبائنا انتخبك لتَعلَم مشيئته، وتُبصِر البار، وتسمع صوتًا من فمه. لأنّك ستكون له شاهدًا لجميع الناس، بما رأيتَ وسمعتَ. والآن لماذا تتوانى؟ قُم واعتمد واغسل خطاياك، داعيًا باسم الربّ.. وبعد المعموديّة تناول شاول طعامًا فتقوَّى.. (أع9: 17-19، أع22: 13-16).

    + مكث شاول مدّة طويلة مع التلاميذ في دمشق.

* ملاحظات على لقاء شاول الأول بالمسيح:

    1- هذا اللقاء ظلّ محفورًا في ذهن شاول طوال حياته، ومصدر إشعاع روحي في قلبه، وكان موضوع حديثه وكرازته مع كثيرين.

    2- تيقّن شاول من هذا الظهور أنّ يسوع حيّ، وقام من الأموات، وليس كما يقول اليهود بأنّ تلاميذه قد سرقوا جسده الميّت، وأشاعوا خبر قيامته.. وكانت هذه الحقيقة صدمة كُبرى له.

    3- بدأ شاول يفهم أنّ يسوع في الحقيقة هو المسيح مخلّص العالم، وأنّ قوّة الحياة فيه قد قهرتْ الموت، وغلبتْ أوجاع الصليب.. وأنّه بالتالي هو مشتهى الأجيال الذي تكلّمت عنه أسفار العهد القديم..

    4- أدرك شاول أنّ تلاميذ المسيح لهم علاقة كيانيّة به، كقطعة منه.. وبالتالي فمَن يضطهدهم يضطهده هو، ومَن يتسبّب في آلام لهم فإنّ الألم يقع على يسوع شخصيًّا.. ومن هنا بدأ أول خطواته في فهم معنى أنّ الكنيسة هي جسد المسيح، وهو رأس الكنيسة.. ولذلك ظلّ طوال حياته بعد ذلك يردِّد ويؤكِّد على عبارة "في المسيح".

    5- شعَرَ شاول بفداحة جرائمه السابقة ضدّ أتباع يسوع، مِن قتْلٍ وسجْنٍ وتعذيبٍ وتشريد.. وفوجئ بأنّه كان يقاوم الله الذي لا يمكن مقاومته، فهو بهذا يرفس مناخس في معركة خاسرة.. لم ينسَ أبدًا هذه الفترة المظلمة من حياته، وكأنّه يقول مع المزمور: "خطيّتي أمامي في كلّ حين".. ولكنّه كان يشكر الله الذي نقلَه من الظلمة إلى نور ملكوت محبّته (كو1)، فيقول مثلاً في مرحلة متأخّرة من حياته: "أنا الذي كنتُ قبلاً مُجدِّفًا ومُضطهِدًا ومُفتريًا، ولكنّني رُحِمتُ، لأنّي فعلتُ بجهلٍ في عدم إيمان" (1تي1: 13).

    6- لعلّه أيضًا تذكَّر وجه استفانوس الملائكيّ قُبَيل استشهاده، وكيف كان يصلّي من أجل الغفران لراجميه.. حتّى أنّ ق. أغسطينوس يقول: "إنّ الكنيسة في ربحها لبولس، مَدينةٌ لصلاة استفانوس".

    7- شاول كفرّيسي كان يَعلَم أنّ بمجيء المسيّا ستُبطَل صلاحية الناموس القديم، لذلك كان لقاؤه مع المسيح هو بمثابة بداية جديدة له بمفاهيم جديدة وناموس جديد، وهو ما قال عنه: "نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ" (رو8: 2)..

    8- إذ ظهر له الربّ يسوع بنورٍ من السماء، فقد أدرك أنّ مملكته مملكة سمائيّة مجيدة جدًّا، وليست مملكة أرضيّة من النوع الذي كان يشغل عقل اليهود.. وأنّه مدعو للانضمام لتلك المملكة الإلهيّة، ولخدمة ملكها السماوي كسفير له، وسط العالم كلّه.

    9- النور الذي غمره، أحسّ شاول فيه بحبّ المسيح الذي يحاصره ويحتويه، على الرغم من خطاياه وعدم استحقاقه.. ولهذا كان كثيرًا ما يقول أنّ محبّة المسيح تحصرنا (2كو5: 14)، وأنّه أسير يسوع المسيح (فيليمون 1، 9)..

    10- هذا اللقاء جعل شاول يسلّم حياته للمسيح تمامًا، بكلّ قلبه وبكامل إرادته.. منتظرًا قيادة الروح القدس له في الخطوات التالية.. وساعده على ذلك فترة الصوم والصلاة، التي عاشها قُبَيْل لقاء حنانيا وقبوله لعهد المعموديّة..

(ُتَّبَع)

3 / 17