الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (2)

* اسم (بولس):

    + كلمة شاول بالعبرانيّة تعني "المُشتهَى أو المُشتاق إليه". وقد يعني هذا أنّ أبويه كانا يشتاقان لميلاده، وأنّه هو الابن البكر لهما. ولعلّ هذا هو السبب الذي جعلهما يقدّمانه نذرا لله ويُرسلانه إلى أورشليم ليتعلّم هناك، خاصّةً أنّ أباه كان فرّيسيًّا..

    + ازدواج اسمه (شاول/بولس) اختلفت فيه آراء الآباء؛

    فمنهم مَن قال أنّه أُعطِيَ الاسمَين منذ ولادته، وهذا ما نادى به العلّامة أوريجينوس، وتؤيِّده الدراسات الحديثة..

    يقول ق. يوحنا ذهبي الفم أنّ بولس استلم اسمه الجديد في أنطاكيّة عند وضع اليد عليه، أو عند معموديّته في دمشق..

    ويقول ق. أغسطينوس أنّه أخذ هذا الاسم في بداية عمله كمبشِّر،

    والبعض يقول أنّه هو الذي أعطَى هذا الاسم لنفسه، أو اشتُهِر بهذا الاسم بعد أنّ عمّد الوالي "سرجيوس بولس" بقبرص في أوّل محطّة من رحلته الكرازيّة الأولى..!

* نشأة بولس:

    + وُلِد في مدينة طرسوس (هي نفسها "ترشيش") عاصمة إقليم كيليكية بآسيا الصغرى.. وهي ميناء كبير وهامّ على البحر المتوسّط.. وكانت مشهورة بالثقافة العالية في ذلك الوقت، وأيضًا كانت تتمتّع بامتيازات سياسيّة خاصّة (حُكم ذاتي - إعفاء من الضرائب).. وبمولد بولس هناك حصل على الجنسيّة الرومانيّة. البعض يقولون أنّ والده قد حصل على الجنسيّة الرومانية في وقتٍ سابق، وأعطاها لابنه..

    + تاريخ ميلاد ق. بولس غير معروف بدقّة، ولكنّه يتراوح بين سنة 1 إلى سنة 5 ميلاديّة.. ق. يوحنا ذهبي الفم يقول أنه وُلِدَ سنة 2 ميلاديّة، ربّما نَقلاً عن وثائق كانت تحت يده..

    + تمّ ختان شاول الطرسوسي في اليوم الثامن، بحسب الطقوس اليهوديّة، فقد كانت أسرته من يهود الشتات الفرّيسيّين المحافظين.. ومن الواضح أنّه تعلّم العبريّة واليونانيّة وأتقنهما في سِنّ مبكّر..

    + كان بولس من عائلة تنتمي لسبط بنيامين (في3: 5).. وهو السبط الذي جاء منه "شاول" أوّل ملك على إسرائيل، وقد نال بولس اسمه في الميلاد.. وكما كان بنيامين هو أصغر أخوته، هكذا حَسَبَ ق. بولس نفسه أصغر الرسل (1كو15: 9).. وكما أنّ راحيل قبل موتها قد أسمَت ابنها "بن أوني" أي "ابن عنائي"، ثمّ حوّل أبوه يعقوب الاسم إلى "بنيامين" أي "ابن يميني"، هكذا بدأ بولس حياته بعناء ومقاومة للمسيح، ثمّ بعدها تحوّل إلى إناء مختار يحمل اسمه لأُمم كثيرة..!

    + لا شكّ أنّ بولس قرأ منذ صباه القصص الخاصّة بسِبطِهِ، والشخصيّات الشهيرة التي خرجت منه؛ مثل شاول الملك ومُردخاي بطل الخلاص في سفر أستير..

    + كما تعلّم بولس صَناعة الخيام منذ صباه عندما كان في طرسوس، بحسب عادة اليهود في تعليم أبنائهم صَنعةً أو حرفةً يعيشون منها.

    + كانت لبولس أخت متزوّجة في أورشليم، وابنها كان له دور في إنقاذ بولس أثناء محاولة اليهود قتله، بعد القبض عليه في أورشليم، كما جاء في: (أع22: 12-16).

    + كان من عادة اليهود أن يبدأوا في تعليم أبنائهم القراءة في الأسفار المقدّسة ابتداءً من سنّ الخامسة.. ثمّ يعلّمونهم في سِن العاشرة من كتب شرح الناموس "المِشنا" أي "التعليم".. وهي التي كانت أساس التلمود "التلمذة".. وبعد ذلك في سنّ الثالثة عشرة يدرس الناموس ويحفظ منه أجزاء ويصير مسؤولاً عن خطاياه.. والمُرجَّح أنّ بولس الرسول قد أرسله أبواه في تلك السِنّ ليتتلمذ في أورشليم، كما ذكر هو: "تربّيت في هذه المدينة، مودَّبًا عند رِجلَيّ غمالائيل" (أع22: 3).. ("جمالائيل" تعني "جمال الله" ويُقال أنّه صار لاحقًا مسيحيًّا، ومات حوالي عام 52 ميلاديّة قبل خراب أورشليم بثماني عشرة سنة).

    + استقى الصبي بولس من غمالائيل حُبّ الوصايا الإلهيّة والغيرة عليها.. وتعلّمَ الاستعداد للدراسة باليونانيّة والاستشهاد بالكتب الموجودة في الثقافة اليونانية.. وأيضًا شرب منه روح الصدق والصراحة، والأمانة في الحُكم على الأمور..

    + يَذكُر المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس عن غمالائيل: "أنّ الشعب كان يشهد لهذا الحكيم، الذي كان يُعتَبَر أنّه متمكِّنٌ تمامًا من وصايا ناموسنا، وكان قادرًا أن يشرح كلّ معانيها".

    + كان الصبي بولس متفوِّقًا في تلمذته ودراسته، كما ذكر بنفسه: "كُنتُ أتقدّم في الديانة اليهوديّة على كثيرين من أترابي في جنسي، إذ كنتُ أوفر غيرةً في تقليدات آبائي" (غل1: 14).

    + تعلّم ق. بولس أسفار العهد القديم من النصّ اليوناني، المعروف بالترجمة السبعينيّة، وأورد منها في رسائله حوالي 180 اقتباسًا.. ومن الواضح أنّه كان يلهج فيها ليلاً ونهارًا.. حتّى اتّهمه الوالي فستوس ذات مرّة؛ أنّ كثرة الكتب تحوِّله إلى الهذيان، لكنّ ردّ بولس كان قويًّا ورصينًا: "لست أهذي أيّها العزيز فستوس، بل أنطق بكلمات الصدق والصحو.." (أع26: 25)..!

* شاول مضطهِد الكنيسة:

    + كان شاول فرّيسيًّا بن فرّيسيّ.. وكانت هذه جماعة من رجال الدين يبلغ عددهم في القرن الأوّل حوالي 6000 شخص، ولهم مدرستهم الخاصّة في العقائد والتعليم، بخلاف الصدُّوقيّين والأسينيّين.. ظهر الفرّيسيّون في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وانتهوا مع خراب أورشليم عام 70 ميلاديّة.

    + اعترف ق. بولس أكثر من مرّة باضطهاده العنيف للكنيسة ولأتباع يسوع.. "إِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلًا فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ ٱللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا" (غل1: 13).. "ٱرْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَصْنَعَ أُمُورًا كَثِيرَةً مُضَادَّةً لِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ. وَفَعَلْتُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي أُورُشَلِيمَ، فَحَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْقِدِّيسِينَ، آخِذًا ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذَلِكَ (أعطيتُ صوتي بالموافقة). وَفِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ. وَإِذْ أَفْرَطَ حَنَقِي عَلَيْهِمْ كُنْتُ أَطْرُدُهُمْ إِلَى ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي فِي ٱلْخَارِجِ" (أع26: 9-11).. "أَشْكُرُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا ٱلَّذِي قَوَّانِي، أَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِينًا، إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَةِ، أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلًا مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا. وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لِأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ" (1تي1: 12-13).

    + كان على الشخص الذي يريد أن يصير فرّيسيًّا، أن يحفظ 613 قانونًا تفصيليًّا، في سلوكه بحسب الشريعة.. ويلتزم بحرفيّة هذه القوانين.. فكانت عقول الفرّيسيّين مشلولة بروابط كلّ تلك القوانين.

    + كان الفرّيسيُّون مضروبين بالتعالي ومحبّة الكرامة والمظاهر.. كما اشتُهِروا بمحبّة المال، وأيضًا بالعُنف ضدّ مَن يخالفهم.. ولعلّنا نرى ذلك في سلوكياتهم، الذي انتقدها السيّد المسيح كثيرًا في تعاليمه، وفي بعض أمثاله (مَثَل الفرّيسي والعشّار).

    + في بداية نشأة الكنيسة، كانت المقاومة للإيمان بالمسيح تأتي بالأكثر من الصدّوقيّين الذين لا يؤمنون بالقيامة، والذين منهم رؤساء الكهنة الذين قادوا عمليّة القبض على المسيح وصلبه.. وجاءت أخبار قيامته مُفزِعة لهم، فأنكروها وحاولوا طمسها بكلّ الوسائل، التي منها اضطهاد الرسل ومحاولة إرهابهم ومنعهم من الشهادة للمسيح القائم من الموت.. وفي ذات الوقت كان الفرّيسيُّون أقل حِدّة من الصدّوقيّين في اضطهاد أتباع يسوع إذ لم يروا فيهم خطرًا، باستثناء موضوع قيامة المسيح التي كانوا يعتبرونها كذبة. لذلك نجد غمالائيل يدافع عن الرسل، ويطالب بتركهم لحالهم، وعدم التسرُّع في الحُكم عليهم..!

    + عندما بزغ نجم استفانوس أوّل الشمّامسة كمُبشِّر بالمسيح، وبزوال العوائد اليهوديّة.. أثار ذلك حفيظة اليهود جدًّا، فقتلوه بعد جلسة محاكمة عاصفة (أع7).. وصار أوّل شهيد في المسيحيّة، بل أوّل مَن أُطلِقَ عليه اسم "شهيد" أي الذي شهد للمسيح حتّى الموت.. وقد قال عنه فيما بعد ق. بولس: "حِينَ سُفِكَ دَمُ ٱسْتِفَانُوسَ شَهِيدِكَ كُنْتُ أَنَا وَاقِفًا وَرَاضِيًا بِقَتْلِهِ، وَحَافِظًا ثِيَابَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوهُ" (أع22: 20).

    + من الواضح أن غفران استفانوس لراجميه، ومنظر وجهه الذي رآه المحيطون به في ساعة محاكمته، والذي كان مثل وجه ملاك.. قد أثّرا على شاول الطرسوسي، ولم يغيبا عن ذاكرته.. ولعلّه هو الذي حكي القصّة بالتفصيل للقديس لوقا، فدوّنها في سِفر أعمال الرسل. ق. أغسطينوس يقول: لو لم يُصَلِّ استفانوس، لَما ربحت الكنيسة بولس..!

    + عندما حدث اضطهاد عظيم على الكنيسة بعد مقتل استفانوس، تشتّت الجميع خارج أورشليم، فيما عدا الرسل الاثني عشر.. ولعلّ ذلك لأنّهم كانوا ملتصقين بالهيكل، يسبّحون ويعبدون، ولهم نفس هيئة بقيّة اليهود..!

    + يقول العلامة ترتليان: دماء الشهداء هي بذار الكنيسة.. فالكنيسة تنمو في العدد والاتساع الجغرافي عندما تصل شهادة أعضائها إلى مستوى الشهادة بالدم..!

    + واضح أيضًا في حادثة استشهاد استفانوس أن شاول الطرسوسي، كان له دور قيّاديّ وسط اليهود، كشابّ متحمّس، غيور ومُندفِع.. ويعمل مع فريق لمعاقبة المسيحيّين.. وجاء عنه كلام مؤسِف جدًّا: "أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّدًا وَقَتْلًا عَلَى تَلَامِيذِ ٱلرَّبِّ" (أع9: 1).. فكان مُفرِطًا جِدًّا في عُنفه، من ضرب وحبس.. أو كما اعترف ذات مرّة: "ٱضْطَهَدْتُ هَذَا ٱلطَّرِيقَ حَتَّى ٱلْمَوْتِ، مُقَيِّدًا وَمُسَلِّمًا إِلَى ٱلسُّجُونِ رِجَالًا وَنِسَاءً" (أع22: 4).. ولعلّه في هذه الأفعال الشنيعة، قد انطبقت عليه نبوءة يعقوب عن ابنه بنيامين جدّ شاول الطرسوسي: "بَنْيَامِينُ ذِئْبٌ يَفْتَرِسُ. فِي ٱلصَّبَاحِ يَأْكُلُ غَنِيمَةً، وَعِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يُقَسِّمُ نَهْبًا" (تك49: 27).

    + لماذا تَعَثّر شاول أوّلاً في المسيح؟!

    لعلّ ذلك بسبب منطق القوّة والتعالي الذي شَبّ عليه، والذي يتنافى تمامًا مع ضعف الصليب، وارتباطه باللعنة بحسب الناموس.. فكيف يقبل أن ينادي أهل هذا الطريق بيسوع المسيح إلهًا وربًّا ومسيحًا؟! فهم بحقٍّ مجدّفون ومزوِّرون ويستحقّون أشنع عقوبة..!

(يُتَّبَع)

2 / 17