الكارز العظيم القدّيس بولس الرسول (1)

    نحتفل بعد حوالي 17 يومًا بعيد آبائنا الرسل الأطهار، عيد استشهاد القدّيسين بطرس وبولس..

    ويحلو لي، بنعمة المسيح، أن أقدّم دراسة شيّقة، سهلة وشاملة، عن حياة وكرازة القدّيس العظيم بولس الرسول، في 17 حلقة، ابتداء من اليوم، وحتّى حلول عيد الرسل.

    أصلّي أن تكون سبب بركة وفرح واستنارة لكلّ من يقرأها..

* مقدِّمة:

    + هو أبرز شخصّية في العهد الجديد بعد شخصيّة ربّنا يسوع المسيح.

    + حياة ق. بولس كانت مشرقة بنور المسيح الذي فيه.. فقد تحقّق فيه بالفِعل ما قاله: أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ (غل2: 20).. حتّى أنّه كان يؤكّد بثقة: تمثّلوا بي كما أنا أيضًا بالمسيح (1كو11: 1). فكان الأنشط والأقوى تأثيرًا بين جميع الرسل..

    + هو كاتب أكثر من نصف أسفار العهد الجديد.. مع ملاحظة أنّ رسائل القدّيس بولس كُتِبَت قبل كتابة الأناجيل.. كما أنّ سِفر أعمال الرسل يتحدّث في جانب كبير منه عن خدمة ق. بولس بالتفصيل؛ إذ كان ق. لوقا كاتب السفر صديقًا ورفيقًا وطبيبًا خاصًّا للقديس بولس.

    + منذ أن ظهر الربّ يسوع له من السماء، وغمره بنوره.. وهو قد قرّر أن يحيا للمسيح، بل يصير المسيح هو الحياة بالنسبة له، والموت من أجله هو ربح (في1: 21).. فصار سفيرًا له في كلّ مكان، حتّى حين وُضِعَت السلاسل في يديه، صار سفيرًا في سلاسل، وكان يفتخر أنّه أسير يسوع المسيح..!

    + خدم القديس بولس أقلّ من ثلاثين سنة، في خلالها غيّر ملامح العالم.. فاقتحم بقاع العالم الوثني حاملاً نور المسيح، كما قاد ثورة روحيّة داخل المجامع والمجتمعات اليهوديّة، حتّى يَفهموا معاني النبوّات، ويكتشفوا المسيح مشتهى الأجيال داخل أسفارهم المقدّسة، ويؤمنوا ويتّحدوا به..!

    + امتزجت حياة ق. بولس بالآلام، سواء من أمراض الجسد، أو من رفضٍ واضطهادٍ ومخاطرَ عديدةٍ، أثناء أسفاره وجولاته الكثيرة بين البُلدان.. وكانت نعمة المسيح تؤازره، وتتفاضل عليه في كلّ الظروف الصعبة، فكان مثمرًا في كلّ الأوضاع..

    + كان الروح القدس يقوده، ويرشده أين يمكث لمدّة؟ وأين يتحرّك؟ ومتى يَزُور؟ ومتى يسكت؟ وماذا يقول؟ وكيف يتواصَل؟!

    + كانت أمام ق. بولس تحدّيات كبرى، من اليهود والوثنيين، من حركات التهوُّد أو من أصحاب العِلم الكاذب (الغنوسيّين) أو من الفُجّار وعابدي الأوثان.. وخاض تلك المعارك بشجاعة، وانتصر بسيف الروح الذي هو كلمة الله..!

    + رسائل القدّيس بولس كلماتها حيّة، مُشَبَّعة بحضور إلهي، وبشرح سِرّ المسيح.. ومملوءة بالتفاعُل مع الكنائس التي كان يكرز لها ويرعاها.. فائضة بالحُبّ للجميع، مضيئة بشرح الإيمان، ومزيَّنة بالتوجيهات السلوكيّة التي تناسب حياتنا الجديدة في المسيح.

    + ارتفع ق. بولس بمستوى الرسائل، التي كانت الناس تتراسل بها في ذلك الزمان، إلى مستوى كتب إلهيّة موحَى بها من الله، وكأنّه أنشأ منبرًا جديدًا وسط الأسفار المقدّسة.. فصارت هذه الرسائل نبيًّا متجوِّلاً مبشِّرًا في كلّ البلدان، ويمتدّ عبر المكان والزمان.. فتجاوزت الرسائل حدود زمانه.. حتّى أنّنا نعتبر أنّ قراءة رسائله يوميًّا في الكنيسة هي بمثابه استدعاء شخصي له، كيّ يقدّم لنا عظة حيّة كلّ يوم..!

    + يقول القمّص متّى المسكين:

    "الكنيسة حتّى اليوم لم تستوعِب بعد، كلَّ هذه المرتفعات التي حلّق فيها بولس الرسول، وصوّرها واستودعها رسائله، ليس لضَعف الفكر فيها، بل بسبب العمق الذي فيه. ونحن قعدنا عن الغوص وراء لآلِئِهِ، وطال قعودنا، واكتفينا بما تُلقِيه أمواج بحره الذاخر على شواطئ أفكارنا الضحلة. فأعماق بولس الرسول تحتاج إلى سبّاح أعماق..!"

* بيـن بولس الرسول وموسى النبي:

    + كما سمح الله لموسى أن يتربّى في بيت فرعون، ويتهذَّب بكلّ حكمة المصريّين، تمهيدًا لخدمته الكبرى في قيادة الشعبّ للخروج من العبوديّة في أرض مصر، وأيضًا في كتابة الأسفار المقدّسة.. هكذا دبّر الله لشاول الطرسوسي أن يتتلمذ في الهيكل اليهودي تحت قدميّ غمالائيل معلّم الناموس، ويدرس الأسفار المقدّسة بعُمق، تمهيدًا لخدمته الكبرى في التبشير بالمسيح مخلِّص العالم الذي أشارت إليه أسفار العهد القديم، ثم أيضًا كتابة العديد من الأسفار المقدّسة..!

    + وكما بدأت قصّة موسى بقتل المصري، هكذا بدأت قصّة بولس بقتل استفانوس.. ولكن كما هذّب الله موسى وصحّح خطأه، وأعدّه للخدمة في البرّيّة، ثمّ ظهر له في العلّيقة المشتعلة، هكذا فعل مع بولس أيضًا بعد أن ظهر له بنور عظيم على مشارف دمشق..!

    + كما اعتقد موسى النبي أنّ الله سيجعل نجاةً لشعبه على يديه، وخلاصًا من عبوديّة فرعون.. هكذا أيضًا آمَن ق. بولس أنّ الله أفرزه من بطن أمّه لرسالة الكرازة، واهتمّ بإعداده من طفولته لهذه الرسالة العظيمة.. وهو لم يكُن مُعانِدًا للرسالة السماويّة (أع26: 19)، بل جاهد بكلّ قوّته لتتميم مشيئة الله في حياته..

    + كشف لنا ق. بولس بالروح الكثير من أسرار طقوس ورموز ونبوّات العهد القديم، مثل الفصح وعبور البحر الأحمر والصخرة وتفاصيل خيمة الاجتماع والعبادة داخلها.. وكيف أشارت كلّ هذه إلى المسيح، والكنيسة، وخلاصنا في العهد الجديد..

(يُتَّبَع)

(1 / 17)