بمناسبة إنجيل الأحد الثالث من شهر بؤونة

          كيف مجّد الله طبيعة الإنسان؟!

    من التعليقات البديعة للقدّيس كيرلّس الكبير على حديث السيّد المسيح المذكور في (لو11: 19-26) مع الفرّيسيين، عندما قالوا أنّه ببلعزبول يُخرج الشياطين، فردّ عليهم الربّ: فأبناؤكم بمَن يُخرجونهم؟.. يقول القدّيس كيرلّس:

    + كان التلاميذ يهودًا، وأولادًا لليهود بحسب الجسد، ولكنّهم حصلوا من المسيح على السلطان لإخراج الأرواح النجسة، فكانوا يحرّرون أولئك الذين تسلّطَت عليهم الأرواح.. لهذا فهو عندما يقول أنّ أولادكم يدوسون بعلزبول باسمي.. يكون القول "إنّني أستمدّ هذه القوّة من بعلزبول" تجديفًا واضحًا، مقترنًا بجهلٍ عظيم.

    + لذلك فهو يقول إنّكم ستُدانون وتُوَبَّخون بواسطة إيمان أبنائكم (يقصد التلاميذ والرسل)، لأنّهم أخذوا مِنّي سُلطانًا وقوّةً على الشيطان.. بينما أنتم تقولون أنّني أستخدم قوّته في صُنع المعجزات الإلهيّة. أمّا وقد ثبت أنّ الذي تقولونه ليس صحيحًا، ولكن بالعكس هو (كلام) فارغ وهراء ومجرّد افتراء، فقد أصبح من الواضح أنّني أُخرِج الشياطين بأصبعِ الله (مت12: 18)، وهو يقصد بأصبع الله "الروح القدس".

    + لأنّ "الابن" يُسمّى "يد الله الآب وذراعه"، فالآب يعمل كلّ شيء بالابن، وبالمِثل فإنّ الابن يعمل بالروح. فكما أنّ الأصبع يمتدّ إلى اليد، كشيءٍ ليس غريبًا عنها، ولكن يختصّ بها بالطبيعة، هكذا أيضًا "الروح القدس"، لكونِهِ مساوٍ في الجوهر، فهو مرتبط في وحدانيّة مع الابن، رغم أنّه ينبثق من الآب، لأنّ الابن يعمل كلّ شيء بالروح المساوي. وهنا المسيح يقول عن قصد إنّه يُخرِج الشياطين بأصبع الله، متكلّمًا كإنسان، لأنّ اليهود بسبب ضعف وغباء ذهنهم لن يحتملوه إذا قال: "إنّي بروحي الخاصّ أُخرِج الشياطين".

    + إذا قال إنّني وقد صِرتُ إنسانًا، وأصبحتُ مثلكم، أُخرِج الشياطين بروح الله، فإنّ الطبيعة البشريّة قد بلغَت فيّ أنا أوّلاً إلى ملكوت الله. وقد صارت مجيدة بتحطيمها قوّة الشيطان، وبانتهارها الأرواح النجسة والفاسدة. فهذا هو معنى الكلمات: "قد أقبل عليكم ملكوت الله". أمّا اليهود فلم يفهموا سِرّ تدبير الابن الوحيد في الجسد، رغم أنّهم كان ينبغي أن يتأمّلوا أنّه بواسطة كلمة الله الوحيد، الذي تجسَّد دون أن يتوقَّف عن أن يكون كما كان دائمًا، فقد مجّدَ طبيعة الإنسان، بأنّه لم يستنكِف من أن يأخُذ وضاعتها على نفسه، لكي يسكب عليها غِناه الخاصّ.

    + المسيح يَستخدِم مقارَنة بسيطة وواضحة.. أنّه قد قهر رئيس هذا العالم.. ونَزَعَ عنه القوّة التي يمتلكها، وقدّمَه فريسة لتابعيه (أي التلاميذ).. فإنّه طالَما يحصُل الإنسان القويّ على التفوُّق، ويحرس ممتلكاته الخاصّة، فلن يكون في خطر من النهب. ولكن متَى جاء مَن هو أقوى وأشدّ منه وهزمه، فإنّه يسلبه. وهذا هو ما صار إليه مصير عدوّنا المشتَرَك، الشيطان الأثيم، الحيّة المتعدّدة الرؤوس، مخترع الخطيّة. لأنّه كان قبل مجيء المخلّص، في قوّة عظيمة، وكان يُوقِع ويقود إلى حظيرته قطعانًا ليست له، ولكنّها تخصّ الله الذي فوق الكلّ، (ويأخُذها) كلِصّ مُغتصِب ووقِح جدًّا. ولكن حيث أنّ كلمة الله الذي فوق الكلّ، والمانح لكلّ قوّة، وربّ القوّات، اقتحمه، بأن صار إنسانًا، فإنّ كلّ ممتلكاته اندحرَت، وغنيمته وُزِّعَت.

    + إنّه يقول: أنا قد أتيت لأنقذ كلّ إنسان من أيدي الشرّير، لأخلِّص من مكرِهِ أولئك الذين اقتنصهم، لأطلِق المسجونين أحرارًا، لأضيء للذين في الظلمة، لأُقيم الساقطين، لأشفي منكسري القلوب، ولأجمَع معًا أبناء الله الذين تشتّتوا خارجًا. هذا هو مجيئي، أمّا الشيطان فهو ليس معي، بل بالعكس هو ضدّي. والذي يُنظِّم شروره ضدّ أهدافي، كيف يُمكِنه أن يمنحني قوّة ضدّ نفسه؟ كيف لا يكون غباءً مجرّد تصوُّر احتمالاً كهذا؟!

[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 81) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]