الامتلاء بالروح

    لقد صار الكلمة جسدًا، وحلّ فينا (يو1: 14)، لكي يفتح لنا الطريق لأن يكون لنا علاقة حيّة مع الثالوث القدّوس.

    فباتحادنا بالابن، نصير أبناء الآب بالتبنّي، وهيكلاً لروحه القدّوس..

    هذا هو مستوى الغِنى في المسيحيّة.. غِنى على مستوى إلهي..

    وعندما يتدفّق الروح في داخلنا، تنمو فينا الصفّات الإلهيّة.. فنمتلئ بالمحبّة، وبالوداعة، وبالحكمة، وبالقداسة، وبالسلوك حسب الحقّ.. فالروح الساكن فينا يشكّلنا لنكون على صورة ابن الله الوحيد، الذي نحن متّحدون به كأعضاء في جسده..!

    وكلّما نتّضع أكثر، ونصلّي طالبين الملء بالروح، كلّما نتيح فرصة أكبر لحركة الروح القدس داخلنا..!

    أبناء الله، انشغالهم الأوّل هو "الامتلاء بالروح"، ليكونوا مُشابهين لله.. ولا يرتبكون بهموم العالم وشهواته وبهرجته، ولا بإدانة الناس، ولا بالمباحثات الغبيّة والسخيفة التي تولّد الخصومات فإنّ "عَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أَنْ يُخَاصِمَ، بَلْ يَكُونُ مُتَرَفِّقًا بِالْجَمِيعِ، صَالِحًا لِلتَّعْلِيمِ، صَبُورًا عَلَى الْمَشَقَّاتِ.." (2تي2: 24).

    "الامتلاء بالروح" هو وصيّة إنجيليّة: "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة، بل امتلئوا بالروح" (أف5: 18).. وهو عمليّة مستمرّة، يجاهد فيها أولاد الله بالصلاة والشبع بالإنجيل.. وهذا الامتلاء هو الذي يحفظ لنا علاقتنا بالثالوث، حيّة ونامية.. وهو الذي يجعلنا نسير حسب مشيئة الله، ونمجّده ونشهد له بأعمالنا وأقوالنا..

    ونحن نستعدّ للاحتفال بعد ثلاثة أيّام، بعيد ميلاد الكنيسة ومعموديّتها.. عيد حلول الروح القدس على آبائنا الرسل الأطهار وكلّ المجتمعين معهم في العلّية، الذي هو موعِد الآب (أع1: 4)، الذي أرسله ليسكن فينا ويربطنا به كأبناء.. يطيب لي أن نتذكّر معًا بعض الكلمات الذهبيّة، من نَسَمات الروح القدس على فم القدّيس كيرلّس الكبير، في تعليقه على ما جاء في إنجيل يوحنّا: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ وُلِدُوا." (يو1: 12-13).

   + حيث أنّهم قد قَبِلوا الابن، فقد نالوا السُّلطان أن يُعَدّوا من أولاد الله.. الابن وحده هو الذي يُعطِي ما يخصّ طبيعته، ليصير خاصًّا بهم؛ جاعِلاً ما يخصّه مشتَرَكًا وعامًّا بينهم..

   + ليس هناك وسيلة أخرى غير هذه تجعلنا نحن الذين لبسنا "صورة الترابي" نهرب من الفساد، إلاّ إذا خُتِمنا بجمال صورة السمائي (1كو15: 49) بدعوتنا إلى البنوّة.

   + إذن نحن نرتفع إلى كرامة أسمى من طبيعتنا، بسبب المسيح، لأنّنا سنكون أيضًا أبناء الله. ليس مثله تمامًا، بل بالنعمة وبالتشبُّه به. فهو الابن الحقيقي، الكائن مع الآب منذ الأزل، أمّا نحن فبالتبنّي بسبب تعطّفه، ومن خلال النعمة التي أخذناها.

   + أضاف الإنجيلي.. أنّهم أخذوا السلطان من الابن لكي يكونوا "أولاد الله" فنالوا ما لم يكُن لهم من قَبْل، بواسطة "نعمة التبنِّي". وبدون أيّ تشكُّك يُضيف "وُلِدوا من الله"، لكي يوضِّح عِظَم النعمة التي أُعطِيَتْ لهم، ويجمع ذلك الذي كان غريبًا عن الله الآب (الإنسان)، ليُدخِله في قرابة الطبيعة معه، ويرفع العبد إلى كرامة سيّده، بواسطة محبّة الرب القويّة للإنسان.

   + الذين بالإيمان بالمسيح، يَصِلون إلى البنوّة التي من الله، فإنّهم يعتمدون للثالوث القدّوس نفسه، وبواسطة الكلمة كوسيط، الذي اتّحد بما هو إنساني أي بالجسد، وفي نفس الوقت هو واحد مع الآب بلاهوته، وهذا يجعلنا نرتفع من رتبة العبوديّة إلى البنوّة. وبالاشتراك الحقيقي في الابن، دُعِينا إلى أن نرتفع إلى كرامة الابن. لذلك فنحن الذين أخذنا الولادة الجديدة بالروح القدُس بالإيمان، قد دُعينا أبناء لأنّنا وُلِدنا من الله.

   + نحن مستحقّون بالإيمان بالمسيح أن نكون شركاء الطبيعة الإلهيّة، ومولودين من الله، ومدعوّين آلهة، وليس بفضل النعمة فقط وحدها نرتفع إلى المجد الذي فوق طبيعتنا، بل لأنّه قد صار لنا الآن سُكنى الله وإقامته فينا.

   + يَسكُن الروح القدس فينا، وهو ما جعل الرسول بولس يدعونا هيكل الله (1كو3: 17).. والذي بسبب سُكناه ننال كلّ ما يخصّ الله الآب بالطبيعة، وما يخصّ ابنه الوحيد بالمِثل.

   + أليس واضحًا للجميع أنّه نزل إلى مستوى العبوديّة، دون أن يفقد ما يخصّه كإله. بل مانحًا ذاته لنا، لكي بفقره نصير أغنياء (2كو8: 9)، ونرتفع إلى فوق إلى شَبَهِهِ، أي شَبَهِ صلاحِهِ، ونصير آلهةً، وأبناءَ الله بالإيمان.

    كلّ عام وأنتم دائمًا في فرح وغِنى الامتلاء بالروح،،