علامة التلمذة للمسيح

    تابعتُ مع الملايين بالأمس، اللقاء التاريخي الرائع بين بطريركنا المحبوب قداسة البابا تواضروس الثاني رئيس الكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة، وقداسة البابا فرانسيس الأوّل رئيس الكنيسة الكاثوليكيّة.. هذا اللقاء الذي تمّ في الفاتيكان، واتّسم بحفاوة ومودّة بالغة من الجانبين.. مِمّا جعله أيقونة للمحبّة المسيحيّة أمام أنظار كلّ العالم..

    الحقيقة أنّ مِثل هذه المحبّة هي علامة أولاد الله، وأبرز ما يميِّز تلاميذ المسيح الحقيقيّين، بحسب ما قال الربّ: "بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي، إن كان لكم حُب بعضٌ لبعض" (يو13: 35).

    هذه هي الكلمات التي اهتمّ ربنا يسوع أن يستودعها في قلوب تلاميذه في ختام رسالته على الأرض.. حتّى تصير الكنيسة قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا، فالمحبّة بالفِعل هي التي تحفظ الوحدانيّة في الكنيسة، مثل الأعصاب التي تربط الجسد كلّه بالرأس، وتوفّر إحساس كلّ عضو بالآخَر.. وهو ما أكّده القدّيس بولس الرسول عندما تحدّث عن أعضاء الجسد التي تهتمّ ببعضها (1كو12) ولا تستغني عن بعضها، بل تسند بعضها، وتتكامل مع بعضها.. وتعمل كلّها لخدمة وبنيان ونموّ الجسد الواحد..

    وعندما أحبّ السيد المسيح أن يؤكّد كلامه عن المحبّة بمَثَلٍ عملي، نزل عند أرجل تلاميذه وأصرّ على غسلها.. ثمّ أوصاهم أن يغسل بعضهم أرجل بعض.. فهذه هي المحبّة، وهذه هي الخدمة والكرازة.. وبعدها أكّد على محبته لنا إلى المنتهى بالسير في طريق الآلام والصليب حتّى الموت من أجل خلاصنا..!

    في الحقيقة، إنّ المحبّة العمليّة تستلزم الكثير من التضحية والصبر والاحتمال والاتضاع والاستعداد أحيانًا للخسارة المادّية، بل ولخسارة السُمعة أيضًا.. وفي ذلك هي تحتاج لطاقة داخليّة جبارة للقيام بكلّ هذا، وهذه الطاقّة لا تأتي إلاّ بمعونة روح الله القدّوس..

    المحبّة ليست عملاً سهلاً أو رخيصًا، فتكلفتها دائمًا عالية.. لكن في المُقابِل ثمارها جميلة وعظيمة، لا يحصدها الإنسان وحده بل أيضًا الذين حوله، مع أجيال كثيرة تأتي لتستظلّ وتتآوى في شجرة المحبّة الوارفة..!

    هذه هي المحبّة التي يعيشها ويزرعها باستمرار أبوانا الفاضلان قداسة البابا تواضروس وقداسة البابا فرانسيس، ويتحمّلان في سبيل ذلك الكثير من الهجوم المضاد من أعداء المحبّة.. ولكن كما عبّر قداسة البابا تواضروس في كلمته المركّزة البليغة:

   "لقد اخترنا المحبّة، حتّى لو كُنّا نسير عكس تيّار العالم الطامع والذّاتي.

   لقد قبلنا تحدّي المحبّة التي يطلبها مِنّا المسيح، وسنكون مسيحيّين حقيقيّين..

   ليعرف العالم كلّه أنّ الله محبّة..

   مهما اختلفت جذورنا وانتماءاتُنا، فتجمعنا محبّة المسيح الساكنة فينا، وسحابة من الآباء الرسل والقدّيسين تحيط بنا وتُرشِدنا".

    لقد ضرب أبوانا المتّضعان المُحبّان لنا المَثَل، في المحبّة الطاهرة المنزّهة عن الأغراض.. المحبّة التي لا تتعالى على أحد، ولا تنعزل أو تنحصر في الذّات.. المحبّة المنفتحة والفائضة على الجميع..

    والواقع أنّ المتاجرة بوزنة المحبّة هي مصدر الغِنى الحقيقي للكنيسة.. فهي كالنور الذي يبدّد الظلمة ويفرّح القلوب.. كالعِطر الذي يفوح برائحة المسيح الذكيّة ويجتذب الكثيرين.. كنسيم الأبديّة نتنفّسه ونحن على أرض غربتنا، فيملأنا بالسلام والبهجة والشوق لأمجاد السماء..!

    هكذا تكون الكنيسة المسيحيّة ناجحة.. إذ تسري المحبة في قلوب أعضائها، فتصير نفسًا واحدةً وقلبًا واحدًا... وبهذا يتحقّق غرض الرب واشتياق قلبه أن يكون الجميع واحِدًا ثابتين في الإله الواحد (يو17).. عندئذ تكون الكنيسة بالحقيقة هي وجه المسيح على الأرض، وسِفارة حقيقيّة للسماء في وسط العالم..!