بمناسبة عيد ميلاد السيّدة العذراء

               أوسع من السموات

    في حديث الرب مع موسى النبي، عندما ظهر له في العلّيقة، ودعاه لكي يرسله إلى فرعون من أجل إخراج شعب إسرائيل من أرض العبوديّة، قال له أنّي قد رأيت مذلّة شعبي وسمعت أنينهم.. "فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً.."

    لعلّنا نلاحظ من الناحية الجغرافيّة أنّ أرض كنعان ليست أرضًا واسعة أو كبيرة مثل أرض مصر، فهي محصورة بين البحر الميت ونهر الأردن من الشرق والبحر المتوسِّط من الغرب، بعرض حوالي 30 ميل.. ولهذا من الواضح أن الله يعني شيئًا آخَر غير الاتساع الجغرافي، لأن شعب إسرائيل كانوا أيضًا متضايقين ومختنقين في أرض مصر على الرغم من اتساعها..

    في الحقيقة أنّ أي مكان يختاره لنا الله لنسكن فيه معه يصير مكانًا واسعًا ورَحبًا، ولا يمكن أن نشعر فيه بالضيق مهما كان صغيرًا في حجمه.. أمّا إذا انعزلنا عن الله فمهما كُنّا في أماكن كبيرة أو متّسعة سيأتي وقت نشعُر فيه بالضيق والاختناق..!

    المكان الذي يحلّ فيه الله يصير مكانًا غير محدود الاتساع.. فالله غير محدود ولا يحدّه مكان أو بيت مصنوع بيد، ولكنّه يفرح بأن يسكن في الإنسان صنعة يديه.. يُسَرّ بأن يحلّ في قلب الإنسان كهيكل له، هذا هو الهيكل الذي صنعته يداه، فيتّسع قلب الإنسان جِدًّا ويمتلئ  بالحُب والفرح والطهارة.. "يَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ" (أف3: 17).. "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟" (1كو3: 16).

    كلّ إنسان يحيا في شركة مع الله يتذوّق هذا الاتساع وهذا المجد..

    السيّدة العذراء هي أعظم نموذج، فقد صارت بحلول الله في أحشائها سماءً ثانية.. حتّى أنّ المرتِّل يقول عنها في تسابيح كيهك:

"لأنه صنع أحشاكِ عرشًا، وأيضًا بطنك المختوم، جعله أوسع من السموات"

(المديح الرومي على القطعة الثامنة من ثيؤطوكيّة السبت للمعلّم سركيس..)

    أوسع من السموات.. يا لها من عبارة..!

    هذه هي ثمرة امتلاء القلب بالنعمة.. ثمرة حلول الله في حياة الإنسان.. يصير قلب الإنسان أوسع من السموات، ولا يتضيّق من أي شيء.. مثلما قال معلّمنا القديس بولس الرسول لأهل كورنثوس: " فَمُنَا مَفْتُوحٌ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْكُورِنْثِيُّونَ. قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ. لَسْتُمْ مُتَضَيِّقِينَ فِينَا بَلْ مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ. فَجَزَاءً لِذلِكَ أَقُولُ كَمَا لأَوْلاَدِي: كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مُتَّسِعِينَ!" (2كو6: 11-13).

    إذن هذه هي وصيّة الإنجيل لنا: أن نكون متّسعين.. ومحبّة الله وحفظ وصاياه هو طريق الاتساع.. لأنه هو الذي يعمل فينا بروحه من خلال الوصيّة فتتّسع قلوبنا.. كما يقول المزمور: "في طريق وصاياك سعيت، عندما وسّعتَ قلبي" (مز119: 32).. "في ضيقتي صرخت إلى الرب، فاستجاب لي وأخرجني إلى الرَّحْب" (مز118: 5)..

    نسمع أحيانًا من بعض الناس أنّهم متضايقون ويكادون يختنقون من هذه الظروف أو تلك المعاناة، ويودُّون لو أن الظروف تغيّرَت لكي يرتاحوا من هذا الوضع الخانق.. ولكنّ العلاج الحقيقي لهذه الحالة لن يكون أبدًا في مجرّد تغيير الظروف أو رفع المعاناة من الخارج، بل بعمل داخلي لروح الله في القلب.. وعندما يتّسع القلب ينتهي الشعور بالضيق ويتلاشى الاختناق، حتّى ولو ظلّت الظروف الخارجيّة سيّئة..!

    آباؤنا الرهبان الذين عاشوا في مغائر ضيّقة وفي شقوق الأرضِ، كانوا يستمتعون بعِشرة الله ومحبّته، فصاروا يشعرون كما لو كانوا يمتلكون السموات والأرض.. لقد صارت قلوبهم بحلول الله فيها أوسع من السموات..

    من هنا نفهم قيمة الصلاة والتسبيح، فمِن خلال التواصِل مع الله تنسكب النعمة في القلب فيتّسع ويسمو فوق كلّ الضيقات والمشاكل، ويصير أوسع من السموات، وتصير ضيقات الدنيا مثل نفايات صغيرة يبتلعها محيط واسع جدًا، تغرق فيه وتختفي..!

    القلب المتّضع يرتاح فيه الله ويصيِّره أوسع من السموات، فيقبل كلّ الأحداث حوله بشكر كما كانت السيّدة العذراء في حياتها تَقبَل كلّ شيء بتسليم وبدون تذمُّر، وتحفظ جميع الأمور والأحداث متفكرةً بها في قلبها.. وها هي الآن تتشفّع في العالم كلّه وتطلب المراحم الإلهيّة لكلّ الضعفاء والخطاة بدون كَلل أو مَلل.. تساعِد وتعزِّي وتشجّع وتبارك.. وتُقدِّم لنا نموذجًا رائعًا كيف نكون مُتّسعين..!