بمناسبة الأحد الثالث من الخمسين المقدّسة

             الغارس والساقي والحاصد

    تقرأ لنا الكنيسة في الأحد الثالث من الخمسين المقدّسة، إنجيل إيمان المرأة السامريّة وأهل السامرة، بالربّ يسوع مخلّص العالم.

    في تلك الحادثة دار حديث شيِّق بين السيِّد المسيح والتلاميذ عندما أتوه بالطعام، ودعوه أن يأكل، فقال لهم: "أنا لي طعام لآكُل لستم تعرفونه أنتم.. طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمِّم عمله. أمَا تقولون أنّه يكون أربعة أشهُر ثمّ يأتي الحصاد، ها أنا أقول لكم ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول، إنّها قد ابيضّت للحصاد. والحاصد يأخُذ أجرةً ويجمع ثمرًا للحياة الأبديّة، لكي يفرح الزارع والحاصِد معًا. لأنّه في هذا يصدُق القول أنّ واحدًا يزرع وآخَر يحصُد. أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه، آخَرون تعِبوا وأنتم دخلتم على تعبهم" (يو4: 32-38).

    + في البداية نلاحظ أن السيّد المسيح يلفت نظرنا إلى نوع جديد من الطعام لم نكُن نعرفه، وهو أنّ نعمل مشيئة الله في حياتنا.. وهذا الطعام الروحي هو طعام مُشبِع للغاية، لدرجة أنّه يجعل الإنسان لا يفكّر حتّى في الطعام الجسدي.. وهذا يفسِّر لنا لماذا نجدّ أنّ الذين كرّسوا حياتهم لخدمة الله بصدق يعيشون في حالة شبع دائم، ولا يحتاجون مثل باقي الناس إلى إشباع غرائزهم الجسدية بِنَهَم وطلَب المزيد، بل أقلّ القليل يكفيهم، إذ هم شباعى بالنعمة..

    + أيضًا يؤكِّد السيِّد المسيح أن وقت الحصاد حاضِر وموجود الآن وليس بعد حين، والحقول مملوءة بالحصاد.. إنّها دعوة للخدمة، فهناك العديد من النفوس تنتظر كلمة صغيرة لتتوب وتعود لحضن الله، تنتظر كلمة تشجيع أو كلمة رجاء، تنتظر عمل محبّة أو لمسة اهتمام، تنتظر مَن ينير لها الطريق أو مَن يجمعها ويقودها لمخازن الله.. الحقول مملوءة بالحصاد في كل أنحاء العالم، والدعوة لكل واحِد فينا أن يجمع مع المسيح، لأن مَن لا يجمع معه فهو يفرِّق (مت12: 30).

    + عندما يقول السيّد أن الحاصِد يأخُذ أُجرَةً ويجمع ثمرًا.. فهذا تأكيد على أن الخدمة لها بركتها، وعلى الرغم مِمّا فيها من تعب وتضحيات، فهي مكسب حقيقي لأي إنسان.. وثمرها ليس فقط بنيانًا للملكوت، بل أيضًا مكافأةً سماوية شخصيّة مع فرحٍ مجيدٍ.. لأن الله ليس بظالم حتّى ينسى تعب المحبّة (عب6: 10)، بل يعطي كل واحد أجرته بحسب تعبه (1كو3: 8)، مهما كان هذا التعب بسيطًا فهو الذي أكّد أن كأس الماء البارد لن يضيع أجره (مت10: 42).. وفي كلّ هذا يَظهَر لنا مدى حُبّ الله الذي يدعونا نحن الضعفاء للمشاركة في العمل معه، وبناء ملكوته.

    + يلفت الرب يسوع نظرنا أيضًا أن العمل معه يشمل مهامًّا متنوِّعة، فهناك الغارس وهناك الساقي (1كو3: 5-8) وهناك الحاصِد أيضًا.. كل واحِد يقوم بدوره فيفرح الجميع معًا في النهاية.. لا يستطيع واحدٌ أن يقوم بكلّ الأدوار، مهما كانت مواهبه.. كما لا ينبغي أيضًا أنّ نصمِّم على القيام بدور معين، قد لا يكون هو المُختار لنا من الله، بمعنى أنّ الله قد يختار لنا مَثَلاً دورَ مَن يُلقي البذار، ويختار لآخَر دور الساقي، ولثالث دور الحاصِد، فلا نحزن لأنّنا لم نحصُد بأنفسنا ما زرعناه، بل لنتقبّل هذا عالمين أنّنا جميعًا سنفرح في الأبديّة بهذا الثمر الوفير.

    + أخيرًا.. يؤكِّد لنا السيد المسيح أنّ إيماننا الآن هو ثمرة تعب الكثيرين قبلنا، ونجاح خدمتنا أيضًا هو نتيجة أنّنا دخلنا على تعب العديد من الخُدّام السابقين.. وهذا يجعلنا دائمًا معترفين بالفضل للذين سبقونا وغرسوا البذار، وسلّمونا الحياة الأرثوذكسية بكلّ عمقها. وأيضًا هذا الفِكر يجعلنا محفوظين في الاتضاع، إذ أنّ السبب الحقيقي لكثرة الثمار التي نحصدها ليس في قدراتنا أو مجهودنا، بل لأن آخرين تعبوا في الزرع والسقي، ونحن نحصد نتيجة تعبهم..!