مؤسسة لا تهدف إلى الربح

ما هي الكنيسة؟

    هل هي مجرد تجمع إنساني حول بعض الأفكار أو المبادئ المدونة في الكتاب المُسمَّى بالإنجيل؟

    هل هي مجرد جماعة وفيّة لذلك المصلوب الذي مَرّتْ قرون طويلة على ظهوره في التاريخ؟!

    هل هي شركة مساهمة تنشُد الربح المادي والنمو والانتشار، من أجل رفاهية أعضائها وتأمين مستقبل مزدهر لأبنائهم..؟!

    في الحقيقة أن الكنيسة كما يُعَرِّفها لنا الكتاب المقدس، هي ملكوت الله على الأرض.. وهي جسد المسيح الحيّ في قلب العالم..

    لقد أوضح المسيح رسالته التي تجسَّد من أجلها، عندما قال:

 "إن كنت أنا باصبع الله أُخرِج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله" (لو20:11)..

"ها ملكوت الله داخلكم" (لو21:17).

    إذن، الكنيسة هي كيان إلهي إنساني.. سفارة حيّة للسماء، وقاعدة أرضية للملكوت السماوي..

    هي تلتقط دائمًا موجات الحُبّ الإلهية التي من فوق، والمُحَمَّلة برسالة الله الخلاصيّة، لكي بدورها ترسلها إلى كلّ بقاع الأرض، كإشعاع حيّ ينير ويُحيي القلوب..!

    هذه السفارة أو المؤسسة الإلهية، إذا جاز لنا أن نسمّيها مؤسسة، هدفها أن تنقل الإنسان إلى حالة أفضل.. وتُحدِث فيه تغييرًا جوهريًا عميقًا..!

    فهي لا تهدف إلى ربحٍ ماديّ.. ولا تقيم المشروعات والأبنية والأنشطة، من أجل أن يزيد رصيدها في البنوك مثل سائر المؤسّسات العالمية.. ولكنها تتبنّى منهج المسيح الذي قال: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10:10)، "ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويُخلِّص ماقد هلك" (لو10:19)..

    فالكنيسة تحمل حياة المسيح فيها، وتحيا بروحه، وتود أن تنقل هذه الحياة لكلّ النفوس..!

    من هنا نفهم أنّ الربح المادي غير وارد بالمرّة في فكر الكنيسة، بل هي تهدف فقط لربح النفوس، مؤمنةً أنّ الله يدبِّر كلّ احتياجاتها الماديّة.

    وإذا كانت هناك خدمات في الكنيسة، يتحوّل هدفها إلى الربح المادي، فقد تَعَطَّل صليب المسيح وعمله، وتَعَطَّلت الكرازة، وانحرف الهدف..!

* هل يمكن أن يحدث هذا؟!

    في الحقيقة، وقبل الإجابة على هذا السؤال، يجب أن نضع أمامنا حقيقة واقعة ملموسة في مجتمعنا المعاصر. ففي ظلّ تطور أسلوب الاقتصاد الرأسمالي، نجد مع الأسف أنّ الكثير من المؤسّسات المتخصّصة، التي من المفروض أن تكون مؤسسات تهدف إلى تغيير الإنسان إلى حالة أفضل، ولا تهدف للربح المادي.. الكثير من هذه المؤسّسات أصبحت تُنشَأ وتُدار لأجل الربح المادّي، ويتراجَع الهدف الأصلي إلى درجات تالية.. مِمّا أوجَدَ خَللاً جَسيمًا في رسالة هذه المؤسّسات الخَدَميّة، وشَرخًا إنسانيًا عميقًا بينها وبين جمهور المنتفعين بأنشطتها..!

    لنأخُذ بعض الأمثلة التوضيحيّة:

* المدرسة:

    هي مؤسسة تربويّة تعليميّة.. المفروض أن يكون هدفها هو التربية والتعليم، وبناء إنسان ذي عقلية نشيطة، وسلوكيّات نافعة للمجتمع.. ولكننا نرى اليوم مشاريع كثيرة لمدارس وجامعات وحضانات خاصّة بمصروفات باهظة، مع تراجُع كبير للمستوى التربوي والعلمي.. وواضح أنّ الغرَض لم يكن التعليم، ولكنّه مجرد مشروع استثماري يدرّ الأموال..!

* المستشفى:

    هي مؤسسة للعلاج وللاهتمام بصحة الناس، وإسعافهم في حالة تعرّضهم لأخطار صحّيّة... ولكنّنا نرى اليوم أعدادًا ضخمة من المستشفيات الاستثمارية التي تراجع فيها الهدف الطبّي الإنساني، وتَقدَّم الهدف المادي على قائمة الأولويات.. إذ يتم تقديم الخدمات الطبيّة بأسعار فلكية، مع إعلانات مُبهِرة تملأ الشوارع، يَدفع فاتورتها بالطبع المريض الذي أوقعه حظّه العاثر في براثن هذه المستشفيات..!

    وهناك أمثلة أخرى في المجتمع، بدأت تَظهر فيها هذه الانحرافات الخطيرة..

    فهل يمكن أن تصاب الكنيسة بهذه الآفة المُدمِّرة..؟!

    الحقيقة أنّ الاحتمال قائمٌ دائمًا، وبالأكثر الآن في ظِلّ التطوّر المعاصر للمجتمع، ودخول تيّار المادّيّة إلى قلوب الناس وعقولهم، ليَجرِف في طريقه روح النسك والتجرُّد والكفاف، التي هي منهج الكنيسة منذ العصور الأولى..

    فمعلمنا بطرس الرسول منذ فجر المسيحية لم يكن رأسماله فضّة أو ذهب، ولكنه كان غنيًّا باسم يسوع (أع6:3). وبينما رفضت الكنيسة الغنى المادّي، كانت الأموال تُلقَى تحت أقدام الرسل، ليأخذ منها كلّ من له احتياج (أع4: 35).. وتصلِّي الكنيسة يوميًّا في كلّ قدّاس: "لكي إذ يكون لدينا الكفاية في كلّ شيء، كلّ حين، نزدادَ في كلّ عمل صالح".. ويعلّمنا الإنجيل أيضًا: "لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ" (عب13: 5).

    أمّا في أيّامنا هذه فالتّحدّي كبير، ويحتاج من الكنيسة ليقظة وسهر على الهدف الروحي، حتى لا ينحرف أبدًا.. بل يظلّ البنيان الروحي وخلاص النفوس، هو شغل الكنيسة الشاغل، وهدفها الماثل باستمرار أمام عينيها..!

   من هنا فإنّ جميع الأنشطة التابعة للكنيسة، لا ينبغي أن يكون الغرض منها تحقيق أرباح مادية، وإنّما تهدف إلى تغيير كياني في الإنسان، لخلاص نفسه، وتجديد طبيعته شيئًا فشيئًا، حتى تصير مشابِهة لصورة الله.. وهذا في الحقيقة هو هدف الله الذي أعلنه لنا مِرارًا في الكتاب المقدّس:

   + "كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت48:5)

   + "نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم قديسين في كل سيرة" (1بط15:1)

   + "وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ" (2كو3: 18)

   + "كي نكون مشابهين لصورة ابنه" (رو29:8)

    هذا هو هدف الكنيسة الذي لا ينبغي أن يغيب من أمام عينيها أبدًا..!

(المرجع: كتاب مؤسّسة لا تهدف إلى الربح - طبعة عام 2000م - للمؤلّف)