إشراقات إلهية

عمل الله في الخليقة ممتدّ لا يتوقّف، وحبه متدفِّق لا ينقطع.. لمِسَتْهُ البشرية منذ خِلقة آدم وحتى الآن..

    وقبل التجسُّد، والذي فيه عرفنا الله الحقيقي بأجلى بيان، كانت توجَد ومضات إلهية هنا وهناك، سجّلَتها لنا حضارات الشعوب المتعدّدة.. فالله لا يترك نفسه بلا شاهد (أع14: 17)..

    ومن أبرز الشعوب الذين تمتّعوا بإشراقات إلهية على أفكارهم وعباداتهم وحياتهم ككلّ: أجدادنا المصريون القدماء..

    فهم كان لديهم مثلاً الاعتقاد أنّ الله ثالوث. لذلك حاولوا تصويره هكذا برموز متعدِّدة في كلّ مناطق مصر.. كثالوث "طيبة" (الاقصر): آمون وموت وخُنسو، وثالوث "أبيدوس": أُوزوريس وإيزيس وحورس..

    وبصرف النظر عن الأساطير التي قيلَت عن هذه الآلهة، ففكرة الثالوث كانت فكرة رئيسية في الإله المعبود..!

    كما كان هناك الفكرة القويّة التي تؤكِّد أنّ الله واحد أيضًا، وقد حاول إخناتون أن ينشرها..

    وهناك أيضًا العديد من الأفكار عن التجسُّد والحساب والحياة الأُخرى، كانت تأخذ شكل عقائد ثابتة، نراها مرسومة بوفرة على جدران المعابد، ومداخل وسراديب القبور..

    سأذكُر في هذا المقال فقط ثلاثة أمثلة، مِن التي أعتبرُ أنّها إشراقات إلهيّة، وقد ظهرَت في طقوس وتعليم وتصوير العبادات المصريّة القديمة:

* المثال الأوّل: وهو ما يُشابه فكرة التجسُّد:

    في بعض الجداريّات التي تصوّر الملك إخناتون وزوجته نفرتيتي، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.. يَظهر قرص الشمس، الذي أمر إخناتون بعبادته كإله أوحد، وقد ظهر منه إشعاع ينزل إلى الأرض..

    العجيب أنّ كلّ شعاع ينتهي بيد إنسانيّة، بعضها يحمل علامة الحياة التي تُشبه الصليب..!

    معروف في الكتاب المقدّس، أنّ يد الله تشير إلى تجسُّد ابنه الوحيد، الذي أشرق علينا بنور المحبّة الإلهيّة، وأتى ليصالحنا مع الآب بذبيحة صليبه.. فابن الله هو شعاع مجد الله، أو بحسب تعبير الإنجيل "بهاء مجده ورسم جوهره" (عب1: 3). وقد أتى إلى أرضنا حاملاً الحياة الإلهيّة لنا، لكي نحيا إلى الأبد من خلال اتّحادنا به.

  (مرفق عدّة صور من جداريّات تلّ العمارنة)

* المثال الثاني: وهو ما يُشابه الوقوف أمّام الديّان العادل في الحساب الأخير:

    من أجمل ما يلفت النظر، في الديانة المصريّة القديمة، الحديث الذي كان يتمّ بين الشخص المنتقل للحياة الأخرى وقُضاة الآخِرة الذين يحاسبونه بعد القيامة. وهذا الحديث به وجه شَبَه مُذهِل مع الكلام الذي علّمنا به السيد المسيح بعد ذلك بقرون طويلة في (مت25) عند الوقوف للدينونة أمامه..!

    وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدلّ على الإلهام الإلهي الذي كان يُشرق على آبائنا المصريين، وعلى محبة الله التي تكشف عن نفسها باستمرار لتنير الطريق للإنسان في كل مكان وزمان.. إذ أن الله "يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون" (1تي4:2).

    لنتأمّل معًا ترجمة لبعض فقرات من النَصّ، الذي كان يقوله الشخص الميّت دفاعًا عن نفسه، أمام قُضاة الآخِرة عند القيامة والحساب:

  لقد عشتُ بالعدل ونشرتُ الصلاح في كل صَوب، حتى حَمَدَ الناسُ سيرتي، وسَرِيرتي تُسرّ الآلهةَ وتستخلص مرضاتهم، وتستمطر رحماتهم ورضوانهم، وتبيح لي فردوس جنّتهم..

   فكم أطعمتُ الجياع، وسقيتُ العطشى، وكسوتُ العراة، وآويتُ الأغراب، وقدّمت القرابين للآلِهةِ، والولائم لأرواح الأموات.. وأوقَفتُ سُفُني لأبناء السبيل (السَّفَر في مصر كان يتمّ عن طريق المراكب التي تسير في فروع النيل)، وكنتُ أبًا للأيتام وزوجًا للأرامل، وعينًا للأعمى، وأذُنًا للأصمّ، وعصًا للشيخ، وملجأً للبائس..

   فلا داعي إذن لتقرير ضِدِّي أمام الديان، لأن قلبي نقي ويداي طاهرتان

* المثال الثالث: وهو ما يُشابه طقس المعموديّة:

    وهذا أيضًا من أعجب ما رأيتُ في حياتي، وهو ما يُسَمَّى بطقس "تكريس الملك"، عن طريق معموديّته (استحمامه) بالماء المقدّس..!

    فيوجَد نحت جداري بديع، بداخل معبد أبيدوس (غرب البلينا)، يُصوِّر الإله توت والإله حورس يقومان بتعميد الملك الجديد رمسيس الثاني بالماء المقدّس.. والمعروف أنّ هذا الملك المصري الشهير عاش في القرن الثالث عشر قبل الميلاد..

    كما أنّ هناك ملحوظة، غاية في العجب، وهي أنّ قطرات الماء المقدّس المُستَخدَم في المعموديّة هي على شكل علامة الحياة (الصليب).. وهنا لا نستطيع أن نُغفِل التشابه العجيب جدًّا بين هذا المنظر مع المعموديّة في المفهوم المسيحي، وارتباطها بالصليب.. فنحن نغتسل من خطايانا في المعموديّة بدفننا مع المسيح والقيامة معه في حياة جديدة، بعد صلب إنساننا العتيق معه (رو6: 3-6). وبحسب تعبير القدّيس كيرلّس الكبير: نحن في المعموديّة نغتسل في دم المسيح، فنتطهّر من خطايانا..!

    والأعجب من ذلك، هو منظر الإلَهة إيزيس وهي تقدّم للملك علامة الحياة (ما يُشبِه الصليب) في فمه.. ولعلّ هذا يُشبِه نفخة الروح القدس التي تقدّمها الكنيسة للإنسان المسيحي بعد معموديّته، في سرّ الميرون، لكي يكون هيكلاً مكرّسًا وإناءً طاهرًا لله.. أو ربّما هذا المنظر يُشبِه التناول من جسد المسيح المذبوح على الصليب لأجلنا، فننال به حياةً أبديّة..!

  (مرفق عدّة صور من جداريّات معبد أبيدوس)

    كلّها أمور عجيبة، تفوق الخيال، كانت موجودة في حياة أجدادنا المصريّين القدماء.. من وجهة نظري البسيطة أعتبرها إشراقات إلهيّة قام بها إلهنا العظيم المُحبّ للبشر، كتمهيد؛ قبل إعلان سِرّ حبّه للبشريّة، والذي تجلّى بأعظم وضوح في تأنُّس ابنه الوحيد الأزلي، في ملء الزمان، لأجل خلاصنا..!

    أخيرًا.. لعلّ الدارسين المتخصّصين لعلوم المصريّات، يكون لديهم الكثير من هذه التشابهات العجيبة، والتي تؤكِّد وِحدة المصدر الإلهي، الذي يُلهم ويُعلِّم، ويبثّ النور في كلّ الثقافات والحضارات، من أجل تهيئة البشريّة لقبول الإيمان بالربّ يسوع المسيح مُشتَهى كلّ الأمم (حج2: 7)، ومخلّص العالم (يو4: 42).