لا تنقل التخم القديم

جاءت كلمة "تُخْم" (وجمعها تُخُوم) في الكتاب المقدّس 38 مرّة، معظمها في سِفر العدد وسفر يشوع.. وهي تُعني حَدّ (وجمعها حدود) الأرض، أي الحدّ الفاصل بين أرض مملوكة لشخص أو شعب، وأرض مملوكة لشخص أو شعب آخر.

بالإضافة للآيات الكثيرة التي ذُكِرَت في سفر العدد وسفر يشوع، جاءت هاتان الآيتان في سِفر الأمثال:

"لاَ تَنْقُلِ التُّخْمَ الْقَدِيمَ الَّذِي وَضَعَهُ آبَاؤُكَ" (أم22: 28).

"لاَ تَنْقُلِ التُّخُمَ الْقَدِيمَ، وَلاَ تَدْخُلْ حُقُولَ الأَيْتَامِ، لأَنَّ وَلِيَّهُمْ قَوِيٌّ. هُوَ يُقِيمُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْكَ" (أم 23: 10-11).

يبدو لنا هنا المعنى واضحًا؛ أنّ عمليّة نقل التُّخم فيها لونٌ من الطمع والتعدّي على ملكيّة أرض الجيران، والرغبة في تعديل الحدود من أجل إدخال مساحة من أرض الجيران لتصير ضمن أرضنا دون وجه حقّ، بخلاف الحدود المُتّفَق عليها منذ أيّام الآباء.

إذًا فإنّ المعنى المباشر لوصيّة: "لا تنقل التُّخم القديم" أنّ الله يريدنا أن نتحفَّظ من الطمع والغِشّ والسرقة، وخاصّةً إذا كان الجار ضعيفًا أو غير قادر على الدفاع عن أرضه.. ولذلك يقول: "ولا تدخُل حقول الأيتام" إذ أنّ الله سيدافع عن هؤلاء الضعفاء بنفسه، ويردّ لهم حقّهم..

لعلّ هذه الوصيّة أيضًا تتشابه مع الوصيّة الأخيرة من الوصايا العشر، والتي تقول: "لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ وَلاَ حَقْلَهُ وَلاَ عَبْدَهُ وَلاَ أَمَتَهُ وَلاَ ثَوْرَهُ وَلاَ حِمَارَهُ وَلاَ كُلَّ مَا لِقَرِيبِكَ." (تث5: 21).

نقل التخوم أيضًا قد يحمل معنى أن نغيِّر المبادئ التي تسلّمناها من آبائنا من أجل مكاسِب مؤقّتة، أو أن نحيد عن الشهادة للحقّ من أجل محاباة بعض الوجوه.. لذلك فوصيّة عدم نقل التخوم، تحثّنا على التعامل بالصدق والعدل مع الناس، وإعطاء الحقّ لصاحبه بالكامل.

وبالإضافة لهذه المعاني المباشِرة، نجد أيضًا أنّ آباء الكنيسة قد فهموا تلك الآيات بمعنى رمزي جميل؛ وهو عدم تغيير الإيمان المُسلّم لنا من آبائنا القدّيسين، فمثلاً يقول القديس كيرلس الكبير:

"نحن لا نسمح أنّ الإيمان الذي تمّ تحديده بواسطة آبائنا القدّيسين المجتمعين في نيقيه أن يتمّ زعزعته بواسطة أيّ أحد، فنحن لا نثق لا في أنفسنا ولا في غيرنا بتغيير أيّة كلمة من التي وُضِعَت هناك.. لأنّنا نحن نتذكَّر الذي قال: لا تبدّل الحدود الأبديّة التي وضعها آباؤك (نفس الآية بحسب النصّ السبعيني)."

هنا يتّضح لنا كيف يجب أنّ نتمسّك بإيماننا الأُرثوذكسي، ولا نبدّل أو نغيّر فيه أو نحرّكه يمينًا أو شمالاً، لأجل ما قد نظنّه مكاسب إضافيّة أو منافع للكنيسة.. كلّ ما يلزمنا أن نفعله هو أن ننموّ في فهم إيماننا الثمين، بالمزيد من القراءة في كتابات آباء الكنيسة الأوائل، لنرى كيف أوضحوا المفاهيم اللاهوتيّة، وكيف شرحوا لنا الأسفار المقدّسة، وكيف فهموا علاقة الله بالبشر قبل وبعد التجسُّد الإلهي..!

أمّا من ناحية الطقوس.. والتي تختلف باختلاف ثقافات الشعوب، حتّى مع وِحدة الإيمان.. فلا أعتقد أنّ هذه الآيات تناسبها.. لأنّ الطقوس يمكنها أن تتطوّر بتطوّر الزمان والمكان، وبحسب ما تراه الكنيسة نافعًا للمؤمنين، من أجل المزيد من فهم الإيمان وتحويله إلى عبادة وعشرة حيّة وفعّالة مع الثالوث القدّوس.