بين البساطة والسطحيّة..!

أوصانا السيّد المسيح أن نكون "بسطاء كالحمام" (مت10: 16). هل معنى هذا أن يكتفي الإنسان بالقليل من الفهم والمعرفة، ويعيش سطحيًّا بلا عُمق..؟!

لقدّ فتح الرب يسوع ذهن التلاميذ ليفهموا الكتب (لو24)، وأخذ يشرح لهم الأمور المختصّة به في جميع الأسفار المقدسة، من موسى والأنبياء والمزامير.. بل ووبّخ تلميذيّ عمواس على سطحيّتهما، وعدم إلمامهما بما تكلّم به الأنبياء عن آلامه التفصيليّة وقيامته المجيدة..!

الحقيقة أنّه لا يوجَد في تاريخ الكنيسة قديسون كانوا جهلةً بالكتاب المقدِّس، أو تافِهين في تفكيرهم الروحيّ.. لأنّه إذا كانت كلمة الله هي النور، فكيف يصِل الإنسان للهدف دون النور؟ وكيف يحفظ قدميه من الانحراف أو الزلل دون سَنَد الكلمة؟ وكيف يَشبع من الداخل ويغتني إذا كان سطحيًّا في علاقته مع الإنجيل..؟!

القديسون كانوا دارسين متعمِّقين للكتاب المقدَّس؛ عالمين، وعاملين، ومعلِّمين.. بحياتهم قبل كلماتهم.. لقد فهموا أنّ الجهل بالكتاب المقدَّس يمكن أن يَستَخدِمه عدو الخير لتضليل الإنسان، كما قال السيّد المسيح للصدّوقيّين: "تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ" (مت22: 29). والجهل أيضًا يؤدّي لهلاك الإنسان، كما هو مكتوب: "هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو4: 6). لذلك يقول القديس كليمنضُس السكندري: "الجهل هو أشرّ الخطايا".

 من هنا نفهم أنّ أيّة دعوة لتسطيح المعرفة الروحية، وعدم الدخول للعمق بدعوى البساطة والبُعد عن الصعوبات، هي دعوة خطيرة للتشجيع على الجهل والسذاجة.. وتؤدِّي لتَخَبُّط الإنسان في الحياة الروحيّة، وتضرّ به ضررًا بالغًا.. بينما المعلّم الأمين الواعي الذي يفهم رسالته، يحاول بكلّ طاقته أن يرتفع بمستوى سامعيه وتلاميذه، ولا يكتفي بأن ينزل لمستواهم، بل يهدف دائمًا للارتقاء بهم..!

صحيحٌ أنّ القديس بولس الرسول كان أحيانًا يسقي سامعيه لبنًا لا طعامًا (1كو3: 2)، لسبب عدم نضجهم الروحي، ولكنّه في ذات الوقت كان يفتح ذهنهم على حقائق الإيمان بالتدريج، ويوصيهم بعدها بكلّ وضوح: " أَيُّهَا الإِخْوَةُ، لاَ تَكُونُوا أَوْلاَدًا فِي أَذْهَانِكُمْ، بَلْ كُونُوا أَوْلاَدًا فِي الشَّرِّ، وَأَمَّا فِي الأَذْهَانِ فَكُونُوا كَامِلِينَ" (1كو14: 20).

أمّا ما نسمعه أحيانًا عن بعض البسطاء، أنّهم كانوا قدّيسين ويصنعون المعجزات، دون أن يحفظوا الصلاة الربّانية، فهذه قصص غير سليمة، يلزم تنقية التعليم الكنسي منها.. إذ أن البساطة لا تعني السطحيَّة والتفاهة والسذاجة، بل تعني السلاسة وعدم التعقيد، ولابد أن تكون مصحوبة بالحكمة.. والحكمة دائمًا مصدرها دراسة كلمة الله بعمق، وحِفظها في قلب جيد صالح.. كما يوصينا الرسول: "لتسكُن فيكم كلمة المسيح بغنى، وأنتم بكل حكمة معلِّمون ومُنذِرون بعضكم بعضًا.." (كو3: 16).

وحتى الأمثلة التي تبدو في صورة السذاجة في جيلنا المعاصِر مثل "أبونا عبد المسيح المقاري المناهري" الذي تنيّح عام 1963م، و"أبونا يسطس الأنطوني" الذي تنيَّح عام 1975م وغيرهما.. فهؤلاء لم يكونوا سُذّجًا كما يبدو لأوّل وهلة، بل كانوا حكماء جدًّا، وعلى مستوى عميق في معرفة الإنجيل.. يحفظون المزامير والتسبحة.. ويجيدون الصمت والصلاة.. وخُبَرَاء في منهج الجهاد الروحي المقدَّس.. وإن كانوا يغلِّفون كلّ هذا بغلاف الجهل والسذاجة لحفظ نفوسهم من المجد الباطل..! وعلى كلّ حال، فمنهجهم هذا هو منهج نادر في تاريخ الكنيسة..!

من أجل هذا، فالدعوة لنا جميعًا أن نكون دارسين للكتاب المقدَّس بعهديه بكلّ جِدِّية، لأنه أساسيٌ لبناء النفس في المسيح يسوع، والثبات في الحياة الأبديّة.