الجسد.. صديق أم عدو..؟!

أحيانا نتساءل، لماذا خلق الله لنا جسدًا، كثيرًا ما يشاغبنا، ويجرّنا إلى أسفل؟!

أليس مكتوبًا بعد خِلقِةِ الإنسان، أنّ الله رأى ذلك أنّه حسنٌ جدًا..؟!!

إذا كان للقديسين جسدٌ مثلنا، فلماذا نجحوا هم في ترويضه، بينما نفشل نحن كثيرًا في التعامُل معه..؟!

كيف رأى القديسون طبيعة الجسد؟ هل رأوه نعمةً أم نقمة؟! صديقًا أو عدوًّا؟! وكيف تعاملوا بنجاح معه؟!

نحاول بنعمة المسيح في هذا المقال أن نناقش هذه التساؤلات..

لقد فهم القديسون أنّ جسدهم هذا هو نعمة كبيرة موهوبة لهم من الله، وصورة الله مطبوعة فيه (تك1: 27) لذلك هم يشكرون الله عليه ويهتمّون به، كما كان القديس بولس الرسول يقول أنّ من الطبيعي أن يحبّ الإنسان جسده ويهتمّ به، فيقوته ويربيه (أف5: 29) ويعتبره وزنة مباركة من الله، من المهم أن يستثمرها ويتاجر بها حسنًا، للخير والمنفعة والبنيان..

كما أنّ القديسين أدركوا أيضًا أنّه بعد خطيئة أبوينا الأولين آدم وحواء عرف الشّر طريقه إلى الجسد، وبدخول الخطية للجسد دخلت أمور غريبة مُفسِدة لطبيعة الجسد، وهي التي سمّاها الآباء: "الأهواء"؛ فصارت هناك ميول رديئة داخل الجسد يلزم ضبطها، بل وصلبها أيضًا، ليحتفظ الإنسان بنقاوته، كما يعلّمنا الرسول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل24:5) لأنّ هذه الأهواء إذا لم يُكبَح جماحها يمكنها أن تطوِّح بالإنسان خارج دائرة الحياة الأبدية.. كما يقول معلمنا بولس الرسول عن نفسه "أُقمع جسدي واستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1كو27:9) أي أنّه بدون وقفة رجولة مع الجسد، وإماتة أهوائه، لا يمكن أن تَخلُص الروح..!

 وهنا نفهم معنى هامًّا للجهاد في المسيحية.. فهو جهاد لحفظ التوازن في معادلة التعامل مع الجسد.. أقوته وأُرَبِّيه من ناحية، وأقمِعه وأستعبده من ناحية أخرى.. وهذا ما تربّينا الكنيسة عليه، فتزرع فينا منذ الصغر منهج الأصوام الأسبوعيّة والموسميّة، لتساعدنا على ضبط النفس وقمع الجسد..!

تُعلِّمنا أيضًا حِكمة الآباء أنّ الجسد خادم جيّد ولكنّه سيّد شرّير.. وأنّ كلّ الحيوانات والوحوش إذا أكرمناها يمكن أن تخضع لنا وتخدمنا، ماعدا الجسد، الذي إذا أكرمناه يمكن أن يهيننا، بتوريطنا في محاولة إرضاء رغباته الشريرة..!

من واقع هذا المفهوم نرى أنّ الإنسان المسيحي يلزمه أن يعطي الجسد فقط احتياجاته، وليس أكثر من احتياجاته.. فيصلّي كلّ يوم مع الكنيسة قائلاً: "لكي إذ يكون لدينا الكفاية في كلِّ شيءٍ، كلّ حينٍ، نزدادَ في كلّ عملٍ صالح". وفي نفس الوقت يرتقي بجسده، عن طريق الصلاة والأصوام، فوق أيّ رغباتٍ خاطئة.. فهو إنسان حامل في جسده سمات الرب يسوع (غل17:6) سمات الصليب الذي به قد صُلب العالم له وهو للعالم (غل14:6).. واعيًا للوصيّة التي تقول: "إن عشتم حسب (أهواء) الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تُمِيتون أعمال الجسد (والمقصود شهوات الجسد) فستحيون" (رو13:8).

وتعجبني هنا قصة جميلة من حياة القديس بيمن في القرن الخامس، تكشف كيف كان القدّيسون يتعاملون بنجاح مع جسدهم.. عندما انتقده البعض لأنّه يغسل قدميه وقت الظهيرة لتلطيفها من الحرّ، على أساس أنّ هذا ضدّ النسك الرهباني، فكانت إجابته: أن الإنجيل لا يعلِّمنا أن نقتل الجسد بل أن نقتل شهوات الجسد..!