شوكة في الجسد

رافق ألم المرض معلّمنا القدّيس بولس الرسول منذ وقت مبكِّر من حياته؛ والتي لم تكُن طويلة بمقياس وقتنا الآن.. فقد وُلِد حوالي سنة 5 ميلاديّة، واستُشهِدَ حوالي عام 67 ميلاديّة.. ولكنّه ظلّ يخدم بكلّ قوّة ونشاط حتّى النفس الأخير، ولم تمنعه الأمراض أبدًا من مواصلة الكفاح في المتاجرة بالوزنات التي استأمنه الروح القدس عليها.. بل كان يعتبر الألم والأمراض بركة لحياته من عِدّة نواحي، وهو يذكُر منها أنّ الألم:

1- يحميه من الكبرياء.. إذ اعتبر أنّ مَرَضَه هو هِبة من الله لكيلا يرتفع من الداخِل بل يظلّ محفوظًا في الاتضاع.. كما قال ذات مَرّة: "لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ.. لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ.." (2كو12: 7).

2- يحفظ له تدفُّق النعمة والعزاء.. فقد أكّد الله له: "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ" (2كو12: 9)، وبعد أن فهم القديس بولس هذا السرّ هتف قائلاً: "بِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ." (2كو12: 9-10).

3- يقوّي شركة المحبّة بينه وبين النفوس التي يخدمها.. فبينما كان يخدم الكنائس وهو مريض، كان البعض يتشجّعون للخدمة ويساعدونه بكلّ ما لديهم من إمكانيّات.. وهذا ما شهد به الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية، عندما كتب إليهم: "تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ. وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا، بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللهِ قَبِلْتُمُونِي، كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ.. لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي." (غل4: 13-15). والجدير بالملاحظة أنّ تبشير القديس بولس في غلاطية، الذي يشير إليه، كان قبل عام 48 ميلاديّة.. أي أنّ مرض الرسول بدأ معه في سنّ مبكّر جدًّا.. ومع ذلك لم يعطّله عن الخدمة..!

إذ تأمّلنا في القائمة الحمراء المذكورة في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس، والتي جاء فيها "مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلاً وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ... فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ..." (2كو11: 24-27) سنتعجّب جدًّا أنّ هذه القائمة المُرعِبة لا تَرصُد إلاّ فقط ما حدث للقدّيس بولس قبل عام 57م، وقت كتابة هذه الرسالة على أقصى تقدير، فهي كٌتِبت بين عامي 55 و57 ميلاديّة.. أي أنّ أحداثًا كثيرة حدثت له في السنوات العشر الأخيرة من حياته يمكن إضافتها لهذه القائمة، ولعلّنا نعرف بعضها من سِفر أعمال الرسل (أع 20-28)..!

هذا هو ما رأيناه في حياة كلّ آبائنا الرسل ومعظم الكارزين، وما نراه أيضًا في رجال الله الأمناء في كلّ عصر.. فهم يخدمون بقوّة، كُلٌ في موقعه، رغم بعض الأمراض الصعبة التي تُضعِف جسدهم.. ومع ذلك نجد أنّ قوّة الروح المتأجِّج فيهم ترفعهم فوق الألم والمرض، فيقدّمون ذواتهم ذبيحةً على مذبح محبّة المسيح إلى آخِر نسمة في حياتهم..!

ما أجمل وما أعظم الشهادة للمسيح عندما تصدُر من جسدٍ مكسور، متّحدٍ بجسد يسوع المكسور، وحاملٍ لقوّة قيامته..!