معنى الصليب

في 17 من فبراير 1941م، ترجَّل ثلاثة جنود نازيّين من سيارة عسكريّة أمام دير "نيبوكالاناو" (بولندا) يريدون مواجهة الأب "مكسيميليان كولب Maximilian Kolbe"، فإذا بهم إزاء راهب شاحب الوجه، أضناه المرض والجهد، فاقتادوه على الفور إلى سجن "بورياك". وبعد أيّام استُدعِيَ الأب كولب أمام القائد الألماني النازي الذي استبدّ به الغضب لدى رؤيته الثوب الرهباني، فصرخ بوجهه:

- أيّها الكاهن.. قُل لي أتؤمن بالمسيح؟

- نعم أؤمن!

وإذا بصفعة قويّة تهوي على خدّه. وجاء السؤال مُجدَّدًا بتشنُج:

- وبعد هذا هل تؤمن أيضًا؟

- نعم أؤمن!

فراح القائد الشرس يكيل له الضربات بيديه ورجليه، ويقذفه بالشتائم والإهانات، والكاهن المسكين لا مقاومةَ له سوى الإصرار على إيمانه.

وفي 30 من يوليو 1941 هرب أحد السجناء من الفرقة 14 من سجن "أوسشوايتز"، فتذكّر السجناء المنكوبون التهديد القاضي بإعدام عشرة سجناء عن كلّ هارب من الفرقة، واصطفّ المُعتَقَلون أمام القائد ليختار، كالجزّار، مًن يُرسِله إلى المُحرقة... وترتفع الزفرات ويختلط الاستنجاد بالحسرات. وإذا بأحدهم يصرخ بصوت تخنقه الغصّة: "آه.. زوجتي التعيسة، أولادي الأعزّاء!".

وفي هذه اللحظات ترك أحد المُعتَقَلين صفّه وتقدّم من القائد، فشهر هذا مسدسه وصرخ:

- مكانك! ماذا تريد أيها الخنزير؟

فأجابه الأب مكسيميليان (وكان هو المتقدِّم):

- أن تسمح لي بأن أموت عوضًا عن أحد المحكوم عليهم!

- مَن أنت؟

- أنا كاهن كاثوليكي.

- عِوَض مَن تريد أن تموت؟

- عِوَض هذا (وأشار إلى الرجل الذي انتُخِب قبل قليل).

- ولماذا؟

- لأنّه ربّ عائلة مسكينة!

ووافق القائد، واقتيد الكاهن المتمثّل بسيّده المسيح مع المحكوم عليهم الآخَرين إلى غُرفة الموت... غُرفة مُظلِمة تحت الأرض، يُهمَل فيها المُعذَّبون إلى أن ينهشهم الموت رويدًا رويدًا، بأنياب الجوع والعطش. وأقسى عذاب يعانونه هو العطش المُحرِق الذي يُلهِب الأحشاء ويجفِّف الدم في العروق. وما أقسى الموت إذا أقبل ببطء..!

وفي صباح اليوم الرابع عشر من أغسطس كان الأب مكسيميليان آخِر مَن تبقّى من زملائه، فقَضَى عليه حارس المُعتَقَل بزرقة (حُقنة) من مادّة الفينول Carbolic Acid، وأُحرِقَت جثّته! وكان عُمره على الأرض آنذاك 47 عامًا..

في يوم الأحد 10 أكتوبر 1982، وفي ساحة القدّيس بطرس بروما، وقف البابا يوحنّا بولس الثاني يُعلِن رسميًّا قداسة مواطنه (البولندي) "الأب مكسيميليان كولب"، أمام حشد غفير يربو على مئة ألف شخص يتقدّمهم 26 كاردينالاً، 300 أسقف، من بينهم 50 أسقفًا بولنديًّا، وعشرة آلاف مسيحي بولندي من جملتهم فرنسيس جايوفنيزيك Franciszek Gajowniczek نفسه الذي كان الأب كولب قد قدّم حياته عنه قبل 41 عامًا، وكان عمره 82 عامًا (عام 1982)، ووفد رسمي يمثّل الحكومة البولنديّة برئاسة وزير الأديان في بولندا.

وفي الكلمة التي ألقاها بالإيطاليّة والألمانيّة والبولنديّة، علق البابا على قول السيّد المسيح: "ليس لأحد حُبّ أعظم من هذا، أن يضع أحدٌ نفسه لأجل أحبّائه" (يو15: 13)، بأنّ الأب "كولب" أكمل قول الفادي بحذافيره... الحُبّ ظهر أقوى من الموت...!

 

(القصّة منقولة نصًّا عن مجلّة "الفكر المسيحي" بالعراق - عدد يناير 1983م)

لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة هذا الرابط:

https://en.wikipedia.org/wiki/Maximilian_Kolbe

 

* هذه القصّة المؤثّرة، تكشف لنا بعض الحقائق:

 

+ مَن يتذوّق حلاوة حُبّ المسيح المصلوب في حياته، يفرح بتقديم نفسه ذبيحة حُب لكلّ أحد من أجل المسيح.

+ حَمْل الصليب يجعلنا مسيحيّين بالحقيقة وليس فقط بالاسم، فيرى الناس فينا نور المسيح ويشتمُّون فينا رائحته الزكيّة، ويظهر فِعلاً أنّنا لسنا من هذا العالم..!

+ محبّة المسيح عندما تنمو في القلب، تساعدنا بسهولة أن نُصلَب مع المسيح في أي وقت، وبفرح..!

+ طريق الصليب يبدو شاقًّا مؤلِمًا، ولكنّه في النهاية يقودنا إلى المجد الأبدي.. لنثبتْ فيه بقوّة مهما كانت التحدّيات..

+ لا توجَد قصّة تستطيع أن تهزّ كيان الإنسان، وتؤثّر في أعماقه مثل قصّة الفداء... المسيح اشترانا بمحبّته، وبأعظم ثمن.. " أَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَِ للهِ." (1كو6: 19-20)جidCIicARBOLIنصيفائق:أذكربأعظم ثمن.. نسبّحه ونمجّده ونزيده علوًّا" (ثيؤطوكيّة الجمعة).2كو5: )."ليس لأحد حُبّ أعظم من هذا، أن يضع.

+ "هو مات لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام" (2كو5: 15).

+ "هو أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له، نسبّحه ونمجّده ونزيده علوًّا" (ثيؤطوكيّة الجمعة).