قداسة البابا شنودة الثالث وعفّة اللسان

ونحن نحتفل بمرور سبعة أعوام على نياحة مثلّث الرحمات، قداسة البابا شنودة الثالث، يسعدني أن أكتب قليلاً عن عفّة لسانه؛ هذه الفضيلة التي كان يتميّز بها طوال حياته.. وكانت ملحوظة جدًّا لكلّ القريبين منه..

+ بالطبع في العظات والأحاديث الرسميّة ينتبه الإنسان لكلماته، ويختار أنقى التعبيرات.. ولكن عادةً تنكشف لغة الإنسان في المعاملات البسيطة اليوميّة مع الذين حوله.. وقد كان البابا شنودة عفّ اللسان مع الجميع وفي كلّ الأوقات.. ويبدو لي أنّه عندما كَتَبَ في رثاء الأرشيدياكون القديس حبيب جرجس:

"لك أسلوبٌ نزيهٌ طاهرٌ.. ولسانٌ أبيضُ الألفاظِ عَفٌ"

كان هذا هو منهج حياته أيضًا..

+ قبل عصر البابا شنودة كانت هناك أخطاء شائعة كثيرة، حتّى في أوساط الإكليروس للأسف.. ومنها استخدام الشتائم بسهولة في الأحاديث، دون الإحساس بأنّ هذه خطيّة، وقد اعتادت آذان الناس على هذا الوضع.. فلمّا جاء البابا شنودة تغيّر الوضع كثيرًا، فهو كان يتأذّى من أي لفظ خارج أو حتّى خشن، فابتدأ يَعِظ ويكتب وينبّه كثيرًا على خطورة هذه الخطيّة، وأنّ الشتّامين لا يرثون ملكوت الله (1كو6: 10)، وأنّ "كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ" (مت12: 36).. وكان هو أيضًا قدوة في انتقاء الألفاظ العفيفة الهادئة التي لا تَجرَح.. فتربّى جيل جديد مهذّب لا يستعمل الشتائم في كلامه..

+ كانت هناك مقولة شائعة: أنّ فلانًا يثور ويشتم ولكن قلبه أبيض.. وكان تعليق البابا شنودة المتكرّر على هذه المَقولة أنّه غير مقتنع بها، فصاحب القلب الأبيض لا تكون ألفاظه إلاّ بيضاء..!

+ كان، نيّح الله نفسه، لا يطيق أن يسمع بعض الكلمات الثقيلة، مثل كلمة "سرطان" مثلاً.. فأحيانًا كان أحد الأشخاص يقول له أن فلان أُصيب بالسرطان، فلم يكُن يحتمل أن يسمع هذه الكلمة، فيقول له بسرعة، لا تقُل هذه الكلمة، ممكن تقول مرض خبيث...

+ لقد كان البابا شنودة يتمتّع بشخصيّة قويّة جدًّا ورقيقة جدًّا في ذات الوقت..

+ كان يتكلم باحترام مع كلّ الناس، فينادي الطبيب: يا دكتور فلان، والمستشار كان يناديه بفلان بك.. ومع الآباء الكهنة والأساقفة، فكان يقول "نيافة الأنبا فلان"، وعندما يخاطبه يقول "نيافتك يا سيّدنا" أو "قدسك يا أبونا" للأب الكاهن..

+ أتذكّر في إحدى المرّات في أكتوبر عام 1997م، ونحن نسجّل معه فيلم "همسة حبّ"، وقد قضينا معه يومًا كاملاً بالمقرّ البابوي بدير الأنبا بيشوي.. كُنّا نتبادل الأحاديث والفكاهات بين فقرات التصوير.. فدخلنا في موضوع يخصّ الخدمة في الكنيسة المرقسيّة، وقدّمت له اقتراحًا معيّنًا، ففكّر قليلاً ثمّ قال: لو تَعرِف "قدسك" كمْ هي المُعاناة التي قاسيتها وأنا أقوم بعمليّة توسيع الكنيسة المرقسيّة... وأكمل حديثه بذِكر بعض التفاصيل.. ولكن الذي استوقفني وهزّني بشدّة هو كلمة "قدسك"، ففي البداية ظننتُ أنّه يكلّم أحدًا من الآباء غيري، فنظرتُ حولي، ولكن تبيّن أنّه يوجّه الكلام لي.. وقد كنتُ حديث العهد بالكهنوت، وهو أب الآباء وراعي الرعاة، ويكبرني بحوالي أربعين عامًا، فكيف يقول لي "قدسك"..؟!!

+ أتعجّب الآن من الانفلات الموجود عند البعض في الألفاظ، وسهولة التطاول بكلمات صعبة على الإكليروس، بل أنّ هذا يَصدُر أحيانًا من بعض الذين يقولون أنّهم يتبعون تعاليم البابا شنودة.. ويبدو لي أنّهم لم يكونوا قريبين منه إطلاقًا، فلم يتعلّموا من رِقّته وعِفّة لسانه.. مثل هؤلاء بألفاظهم الخشنة والخارجة لا يمكن أن يكونوا أبناء قداسة البابا شنودة، ولا يستحقّون أن يُنسَبوا له..!

+ مَن يريد أن يكون ابن البابا شنودة بالحقيقة، فعليه أن يراعي مشاعر الآخرين، ويبتعد تمامًا عن استخدام الألفاظ الجارحة والمؤذية، بل يختار الألفاظ الرقيقة الهادئة، ويتحلّى دائمًا بعِفّة اللسان في حديثه..!

بركة صلاة مثلّث الرحمات، قداسة البابا شنودة الثالث، تكون معنا جميعًا. آمين.