تكوين قانون الإيمان

الكنيسة جسد المسيح هي كائن حيّ.. وُلِدَ يوم الخمسين، وينمو بعمل الروح القدس يومًا فيومًا.. فالسيّد المسيح لم يترك لنا كتابًا أو نصوصًا معيّنه لنحفظها، ولا سلّم للرسل قانونَ إيمانٍ مُحدَّدًا، بل فقط سلّمهم مبادئ المحبّة والقداسة والعدالة، ودعاهم للثبات فيه لكي يمتلئوا من روحه القدّوس.. وبتفاعُلهم مع الروح القدس تنمو الكنيسة..!

أودّ أن أتحدّث في هذا المقال باختصار عن جانب واحد فقط يظهر فيه عمل الروح القدس بالتفاعُل مع آباء الكنيسة، من أجل بلورة قانون الإيمان، الذي يؤمن به الآن كلّ المسيحيّين في العالم..

في بداية الكنيسة كانت تُستَعمَل صِيَغ إيمانيّة بسيطة يُقرّ بها الشخص جَهرًا أمام بعض الشهود قبل المعموديّة، وهذا ما أشار إليه القديس بولس الرسول في حديثه مع القدّيس تيموثاوس عندما قال له: "أَمْسِكْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي إِلَيْهَا دُعِيتَ أَيْضًا، وَاعْتَرَفْتَ الاعْتِرَافَ الْحَسَنَ أَمَامَ شُهُودٍ كَثِيرِينَ" (1تي6: 12) وهو هنا يُذكّره بإقرار الإيمان الذي جاهر به قبل معموديّته، وكان ذلك يُسمّى "الاعتراف الحسن"، وهو إقرار مختصر بالإيمان بالمسيح ابن الله وعمله الخلاصي ومجيئه الثاني للدينونة.. وكانت كلّ كنيسة في العالم تضع هذا الإيمان البسيط في صياغة مناسبة لها بإرشاد الروح القدس، فكانت هناك صِيَغ متعدّدة في كلمات قليلة، وتحمل نفس المعانى تقريبًا.. وظلّ الوضع هكذا حوالي ثلاثمائة سنة..

بعد ظهور هرطقة آريوس في أوائل القرن الرابع، ظهرت الحاجة لوضع قانون إيمان موحَّد أكثر تفصيلاً تلتزم به كلّ كنائس العالم.. وقد تمّ هذا في المجمعَيْن المسكونيّيْن في نيقية عام 325م والقسطنطينيّة عام 381م، فقانون الإيمان الحالي هو نِتَاج هذين المجمعين، لذلّك سُمِّيَ "قانون الإيمان النِيقَوِي القُسطنطيني".

ما أودّ التركيز عليه أنّ هذا القانون أخذ وقتًا في بلورته بهذا الشكل.. وهذا يؤكِّد لنا أنّ الكنيسة كائن حيّ ينمو بقيادة الآباء المستنيرين بالروح القدس، فلا مكان للجمود والتحجُّر فيها أبدًا..

الذي لا يعرفه الكثيرون أنّ صيغة قانون الإيمان في مجمع نيقية كانت مختصرة جدًّا، والآباء المائة والخمسون في مجمع القسطنطينيّة أضافوا لها الكثير من العبارات التوضيحيّة بين السطور مع الجزء الختامي بكامله.. بمعنى أنّ نص قانون الإيمان كما نعرفه اليوم استغرق سنوات طويلة وجهدًا فكريًّا كبيرًا من مئات من الآباء الأساقفة بإرشاد الروح القدس لكي يَظهر في شكله الحالي.. ولأنّنا كلّنا نحفظ قانون الإيمان، فسوف تكتشفون عندما أضع أمامكم نصّ مجمع نيقية حجم الإضافات التي دخلت عليه في القسطنطينيّة..

ها هو النصّ النيقَوي، مصحوبًا بالإضافات القسطنطينيّة بين الأقواس:

"نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكلّ، خالق (السماء والأرض)، كلّ ما يُرى وما لا يُرى. وبربٍّ واحد يسوع المسيح ابن الله (الوحيد)، المولود من الآب (قبل كلّ الدهور)، نور من نور، إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كلّ شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل (من السماء) وتجسّد (من الروح القدس ومن مريم العذراء)، وتأنّس، (وصُلِبَ عنّا على عهد بيلاطس البنطي) وتألّم (وقُبِرَ) وقام (من بين الأموات) في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء، (وجلس عن يمين أبيه) وسيأتي (أيضًا في مجده) ليدين الأحياء والأموات (الذي ليس لملكه انقضاء)، وبالروح القدس".

من هنا نفهم كيف أنّ الكنيسة كائن حيّ ينمو بالروح القدس العامل في آبائها وقدّيسيها، ولم ولن يتوقّف عن العمل بعد نياحة بعض آبائها، بل هو قادر باستمرار على قيادة أعضاء جسد الكنيسة وتنمية غصونها الجديدة من أجل المزيد من الاتساع في المحبّة والفكر والروح والشهادة للعالم أجمع..!